أوّل تجربة عمل مشترك ما بين الأجيال الأولى والشابة للنسويات في الجزائر كانت سنة 2019. عشتها بقوة، ولم أنتبه في فترة التنظيم تلك، أنّني أكتشف حركة نسوية لم تكتب يوماً تاريخها المليء بالمحطات الحسّاسة. لطالما اعتقدت أنّ الحركات النضالية تنشأ عبر الاستمرارية، ولكنّني اكتشفت بعد سنتين من العمل المشترك أنّ الحروب والعنف التي عاشتها منطقتنا تُوّلد القطيعة والاختلاف. وإلى حدّ الآن ما زلت أسأل نفسي: هل أنا نتيجة استمرارية؟ هل هناك علاقة تربط نضالاتنا وممارساتنا النسوية التقاطعية وتاريخ التكتلات النضالية من أجل المساواة؟!
وعيت في وقت متأخر أنّنا نفرض تابوهات على اختلافاتنا الداخلية، ونتفادى تناولها، وهذا الأمر لا يمكنه أن يستمر، فهو يؤزّم وضعية حركاتنا النسوية.
تروي رفيقتنا من الأجيال الأولى للحركة النسوية معركة المساواة عند الاستقلال:
عند استقلال الجزائر سنة 1962، واجهت مواطنة النساء وممارسة حقوقهن عدّة مصاعب، على رأسها مخلّفات الاستعمار من جهل وفقر، إضافة إلى ذكورية من استولوا على الحكم الذين بادروا إلى مطالبة النساء المشاركات في الثورة التحريرية بالعودة إلى المطبخ باعتباره المكان الطبيعي والحتمي للنساء.
نجحت معركة تعليم وتكوين الإناث بعد العشريات الأولى للاستقلال، ولكن سياسات الدولة التي لم تعر اهتماماً للمساواة في الحقوق المدنية والسياسية، بل ساعدت المجتمع ذو الممارسات السلطوية الذكورية على احتجاز النساء تحت سقف زجاجي، لا تزال الحركات النسوية تحاربه إلى يومنا هذا.
إصدار قانون الأسرة يؤدي لتنظيم أولى الجمعيات النسوية المستقلة:
في ٩ حزيران/ يونيو 1984، تمّ إصدار أوّل قانون أسرة في الجزائر، كان نصّه يلغي مبدأ المساواة بين الرجال والنساء ويطبّق أحكام الشريعة الإسلامية والأعراف، لتصبح النساء تابعات باسم قانون حاربته التكتلات الأولى للنسويات الجزائريات قبل صدوره، حيث نظمت أولى الطالبات الجامعيات بمساعدة مجاهدات حرب التحرير مسيرات كبيرةو حشدت آلاف النساء للتعبير عن الرفض المطلق بمجرّد اقتراح إصداره سنة 1979م.
عند صدور قانون الأسرة، تنظمت أولى الجمعيات النسوية، وكان لبّ نضالاتها متعلّق بإلغائه، رغم اختلاف المواقف بين من أرادت الإلغاء التام وبين من أرادت التعديل، واختلفت صياغة التنديدات، لعدّة أسباب أخرى، من بينها التوّجهات الإيديولوجية والحزبية، حيث كانت أغلبية النسويات يناضلن في أحزاب سياسية يسارية، إضافة إلى جمعياتهن النسوية.
لم تختلف ممارسات الأحزاب عن ممارسات السلطة، فيما يخصّ حقوق النساء، واعتبرت جلّها أنّ الأولوية لا تتعلّق بحقوق النساء، ولكن بالنضال من أجل التعددية الحزبية، حيث كانت جميعها تنشط في الخفاء. ولمّا تمّ الاعتراف بالتعدّدية الحزبية سنة 1989، تلّقت النسويات خطابات أخرى، تعتبر مرّةً أخرى، أنّ حقوق النساء لا يمكنها أن تكون أولوية برامجها، مراعاة لخصوصيات المجتمع وللأزمات السياسية والاقتصادية التي كانت تمرّ بها البلاد!
مخلّفات سنوات الحرب الأهلية:
أعتقد أنها أكثر فترة لم نضمّد جراحاتها، بل ونواصل حتى الآن تفادي الكلام عن مخلّفاتها، وكأنها لم تؤثر علينا جميعاً. حتى، وأنّ رفيقاتنا الأكبر سنّا، كلّما فتحنا الموضوع، يعتبرن أننا غير معنيات، علماً أنّ أغلبيتنا كنّا ندرس بالابتدائي أو المتوسطة.
عاشت البلاد ابتداء من سنة 1990حرباً أهلية دامية، راح ضحيتها أكثر من 200000 قتيل، واستهدف ما سُمّي بالإرهاب الإسلامي بصفة مضاعفة النساء، حيث قُتلت الآلاف من النساء، من بينهن نساء رفضن التخلّي عن العمل أو الدراسة، وأخريات رفضن ارتداء الحجاب الإسلامي وأخريات بسبب نضالهن.
قمع الدولة لم يكن العنف الوحيد الذي واجهته المناضلة اليسارية والنسوية، نبيلة جحنين، التي اغتالتها الجماعات المسلحة سنة 1995. نبيلة ليست الاسم الوحيد، هناك الآلاف من النساء من ضحايا الإرهاب الإسلامي، ما بين مختطفات، مغتصبات، مهدّدات ومقتولات، ما جعل أغلبية الجمعيات بداية سنوات ال 2000 بدون نَفَس. كلّ شيء تغيّر، المجتمع والأولويات وموقف النساء البعيدات عن النضال من قانون الأسرة.
سنة 2004 مثلا، نُظِّمت حملة كبيرة شاركت فيها جمعيات وناشطات جزائريات من الأجيال الأولى من داخل وخارج الوطن. كان شعار الحملة “عشرين سنة بركات” (بمعنى 20 سنة كفى)، وكانت تلّمح الحملة للسنة العشرين لإصدار قانون الأسرة، وأثّرت هذه الحملة على التعديلات التي صدرت على القانون في 2005، والتي من بينها إلغاء واجب الطاعة على الزوجة، وفي نفس الوقت اشتغلت اللجنة الوطنية للمرأة العاملة على تجريم التحرّش الجنسي، فيما كانت مؤسسة الإعلام والتوثيق حول حقوق المرأة والطفل تشتغل على الديمقراطية التشاركية والكوتا للنساء في السياسة. جمعيات أخرى اشتغلت على إدماج ومرافقة الأمهات العازبات والنساء ضحايا العنف. ولكن القاسم المشترك لهذه المبادرات هو غياب النسويات الشابات والمطالب المتعلّقة بالأقليات الجنسية والجندرية.
أين الاستمرارية؟ من أنا وسط كلّ هذا الرّماد؟؟ لماذا لم تتعلّق نسويتي بقانون الأسرة؟
أنا اكتشفت غضبي النسوي رفقة جيل جديد من النسويات، لديه توّجهات إيديولوجية جديدة وأولويات أخرى. ولو كانت هناك استثناءات بالغرب الجزائري حيث انضمت عدّة شابات من الجيل الجديد من النسويات إلى الجمعيات المحلية، فإنّ التعمّق في تجربتي الخاصة وتجارب أغلبية المجموعات الأخرىو يدل على أنّ نسوية الشابات ستتطوّر وتتنظم في قطيعة تامة مع الأجيال الأولى. سواء كانت مجموعات منظمة في الخفاء أو مبادرات إلكترونية. قد يعود ذلك للتعتيم الإعلامي على العمل النسوي وغياب الأرشيفات ومساحات التبادل والتشبيك، وقد يعود الأمر لاختلاف الأولويات بكلّ بساطة.
غضبي النسوي وليد واقعي وتعطّشي للحرية، فحتى إذا انتهى حظر التجوّل المؤسساتي على مجمل الشعب، فإنّ العائلة الجزائرية واصلت هذا الحظر على النساء. وكوني أفسّر هذا الحظر اليوم، لا يعني أنّني كنت واعية أنه من غير الطبيعي أن أُمنع من الخروج للمساحات العمومية بدون سبب متعلّق بالدراسة أو العمل، وأوّل المعارك خضتها يوم استيقظت من سبات الذكورية، هي معركة حريتي وكسري لقضبان الأسرة وأحكامها. اليوم أرى أنّ من اشتكوا من التمييز بعد الاستقلال، أعادوا إنتاج نفس المعاملات بعد سنوات الإرهاب، حيث تغيّر الوضع الأمني والاستقرار بدون الاستفادة المتساوية للرجال والنساء من المكتسبات. التغيّرات العامة جعلت الوصول للمساحات العامة، وخاصة العمل والتعليم الجامعي، تفرض مواجهة النساء، وخاصة الشابات منهن، لأنواع أخرى من العنف. أنا، ونسويات جيلي، ولدنا مع أو بعد إصدار قانون الأسرة، مما أثّر على مكانة المطالب الخاصة بهذا الأخير، نحن الجيل المتأثر بحملة Me_too .
لطالما اعتقدت أنّ الحركات النضالية تنشأ عبر الاستمرارية، ولكنّني اكتشفت بعد سنتين من العمل المشترك أنّ الحروب والعنف التي عاشتها منطقتنا تُوّلد القطيعة والاختلاف
ابتداءا من 2006، اجتمعت أغلبية المبادرات الشابة حول قضايا خاصة، مثل الحقوق الجندرية والجنسية، العنف وجرائم قتل النساء. وكما لم تطرح إشكالية الاستمرارية والتلقين تلك الفترة، فإنّ البدايات كانت بدون الاهتمام بماضي الحركات النسوية.
تعدّدت المبادرات، خاصة في العالم الافتراضي. أنا شخصيا كانت بدايتي مع النشر باسم مستعار على منصة إلكترونية لكلية الطب التي كنت أدرس بها، تجربة جعلتني أهتم بالنسوية بسبب ردود الأفعال كلّما تكلمت عن امتيازات الطلاب مقارنة بالطالبات. أظنّ أيضا، أنّ اختيارنا في البداية للعالم الرقمي، متعلّق بصعوبة الوصول للمساحات العمومية، كما أنّه (العالم الرقمي) كان يسمح بالوصول لكلّ من يصعب لقاءهم في أرض الواقع.
حوالي 2006، تمّ إطلاق أول نادي إلكتروني جزائري لمجتمع الميم عين، عرفت هذه المساحة بال GLA، ولو كانت هذه المساحة في البداية مخصّصة للتبادل والتعبير، فقد نتج عنها أوّل لقاءات مجتمع الميم عين، وأوّل الأعمال النضالية كتأسيس اليوم الوطني لمجتمع الميم عين الموافق 10 تشرين الأول/ أكتوبر لكلّ سنة، والمعروف ب Tenten. وسرعان ما تنظمت أوّل مجموعة تحت اسم أبو نواس، من أجل حقوق الأقليات الجنسية والجندرية، ثمّ تفرّعت بسبب اختلافات عديدة لعدّة مجموعات أشهرها جمعية “ألوان من أجل مجتمع الميم عين”.
معظم النشاطات إلى غاية يومنا الحالي تصدر على المواقع الإلكترونية، ورغم اتخاذ مبدأ ومنهجية النسوية التقاطعية، إلا أنّ العمل المتبادل مع الجمعيات النسوية الكلاسيكية، يظلّ شبه منعدم، وهذا يِؤكد لي غياب الاستمرارية، التي يغطيها البعض بمشاريع النوع الاجتماعي الموافقة لأهداف المموّلين وليس لأهداف القضية.
إضافة للمبادرات النسوية الكويرية، ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، أطلقت عدّة صفحات نسوية شابة، بعضها مستقل والبعض الآخر ضمن شبكات واسعة مثل شبكة “سافرات”، ولو أنه في البداية لم يتم الاعتراف بالنشاط الإلكتروني ضمن الحركات النسوية، إلا أنّ هذا النوع من التحرّكات، فرض النسوية بمفاهيمها الصريحة والحديثة. في الماضي، كانت رفيقاتنا يتكلمن عن جمعيات أنثوية من أجل الحقوق، تخوفاً من المجتمع، واليوم نحن نتكلم بصراحة عن النسوية بكل أبعادها Feminism.
إيمان شيبان، نسوية شابة صاحبة مبادرة إلكترونية تنظم وقفة احتجاجية للتنديد بقتل رزيقة شريف
سنة 2015، كنت لا زلت أعيش في مدينة قسنطينة في البيت العائلي، وكان نشاطي يقتصر على منشورات ومقالات في مواقع التواصل الاجتماعي، كنت أجتمع سرّا بالمجموعة النسوية لمدينتي، والتي عُرفت باسم “صوت نساء”. وفي خريف تلك السنة، كانت صرخة غضب مختلف المبادرات النسوية الإلكترونية بعد أن قام متحرّش بقتل امرأة جزائرية تُدعى رزيقة شريف. قامت المناضلة النسوية التي رحلت عن عالمنا سنة 2019، إيمان شيبان، بتنظيم وقفة احتجاجية بالعاصمة، دعت إليها عبر مبادرتها الإلكترونية الخاصة، واستجابت لندائها عدّة نسويات، ووجّه الإعلام عدساته حول مطالب المناضلات والنساء عامة، خاصة منها المتعلّقة بجرائم العنف. حتى أنّ مشروع القانون الجديد حول العنف، والذي كان سجين درج البرلمان، قد أعيد للنقاش وتمّ إقراره نفس السنة. كانت فترة التساؤلات، لأنني كنت في نسق شخصي آخر لا يسمح لي أن أدعم رفيقاتي سوى بالنشر، وتساءلت تلك الفترة كثيراً عن شرعيتي في هذا النضال وعن معنى العدالة، وهل الضحية التي فارقت الحياة قد استفادت شيئاً من تحرّكاتنا، أو كانت فقط جزءاً من التضحيات التي رافقت التغيير!؟ كنت في غضب مستمر، رافقني وغيّر تماماً رضوخي للقيود الأسرية، وجعل العنف المنزلي يتفاقم، ولكن بدون أن أتخذ أيّ قرار.
لم تختلف ممارسات الأحزاب عن ممارسات السلطة، فيما يخصّ حقوق النساء، واعتبرت جلّها أنّ الأولوية لا تتعلّق بحقوق النساء، ولكن بالنضال من أجل التعددية الحزبية
في نهاية صيف سنة 2016 أُحرقت امرأة حيّة في الشارع العمومي في مدينتي، كان اسمها أميرة مرابط. فارقت الحياة بعد صراع مع الموت في العناية المركزة، وكانت رفيقة لنا قرّرت العيش في بيروت في زيارة عائلية تلك الفترة، وأصرّت على مجموعتنا النسوية كي نقوم على الأقل بزيارة الأهل. رافقتها وكلّي خوف من عائلتي، وكان ذلك أهم قرار في حياتي. ففي بيت الضحية كانت عيناي لا تغادران صورتها، كلمات والدتها كانت قوية، لا شيء حماها، لم تفدها قيود الأسرة، ولم ينقذها الحجاب، فالمجتمع الذكوري يواصل حياته… ذلك اليوم عند عودتي للبيت رفضت القيام بالأعمال المنزلية وانعزلت في غرفتي، ولم أستطع النوم حتى كتبت ونشرت مقالاً حول هذه الجريمة البشعة، ولا أعلم لماذا؟ ولكنني لم أستعمل اسماً مستعاراً هذه المرّة. عند استيقاظي وجدت المقال قد نشر على نطاق واسع وتمّ التجاوب معه ما جعلنا نقرّر تنظيم وقفة احتجاجية استجابت لها نسويات مدن أخرى. وفعلا يوم 11أيلول/ سبتمبر 2016، كانت وقفات احتجاجية في كلّ من قسطنطينة والعاصمة ووهران وبجاية. لم أتوّقع أن تحضر الصحافة، حتى أنني في اليوم الموالي، حاولت مع رفيقات من المنظّمات للوقفة، أن نشتري كلّ جرائد الحي كي لا يلتقي بها أبي! طبعاً لم نتمكن من إخفاء الأمر، وكانت فترة اقتنعت فيها أنني لست نسوية بسبب قانون الأسرة وفقط، ولكن بسبب سلطة الأسرة وذكورية المجتمع أيضاً.
العدالة كانت تقمع باسم القانون، والمجتمع والأسرة يرفضان حتى أحكام العدالة. وللأسف، وإن كان ذلك استنتاج مشترك لعدّة رفيقات من العالم الافتراضي كنّ يواجهن صعوبة التنظيم في أرض الواقع، فإنّ الحديث حول ما يمنعنا عن التحرّك كان لا يقنعني.
مبادرات تفرض النسوية بكلّ أبعادها في عدة مناطق عام ٢٠١٩
مع بداية الحراك الشعبي، بادرت الرفيقات من الجيل الجديد بدعوة مختلف النسويات من شتى الأجيال للاجتماع والتنظيم. وفعلاً، أعربت الأغلبية عن رغبتهنّ في تفادي أخطاء الماضي، خاصة أنّ مسيرة 8 أذار/ مارس، لتلك السنة كانت قوية، وقد تمّ التعتيم عنها. ولإلقاء الضوء على المطالب تمّ تنظيم مربع نسوي، وتلقى أول بيان عدّة انتقادات، خاصة من الرفقاء الحقوقيين الذين يدعون التقدمية، وتمّ أول مربع بدون مشاكل، ولكن ثاني مسيرة للمربع كانت خاصة، فقد تمّ الاعتداء اللفظي والجسدي على النسويات، وتلى ذلك اليوم موجة من التهديدات على مواقع التواصل الاجتماعي. كنت في ذلك الوقت قد غادرت مدينتي واستقليت بمفردي في العاصمة. كانت كلّ الأضواء الإعلامية ملقاة على أشخاصنا كنسويات في تلك الفترة ولم يبق لي خيار حول السرّية.
ولو كانت موجات التضامن مهمة جداً إلّا أنّ حصيلة تلك الفترة بالنسبة لي جعلتني أقتنع اليوم أنّه لا توجد حركة بل حركات نسوية. من بين سبل التعنيف تلك الفترة، والتي مارسها حتى المناضلون/ات، هي فضح الهويات والتوّجهات الجنسية، وكان تناول مخاطر وآثار العنف يتجاهل تماماً ويتفادى حتى تسمية الهوموفوبيا. سنوات بعد تلك الحوادث، أدركت أنّ تحالفاتنا النسوية لم تستدع مجموعات مجتمع الميم عين، وأنه حين قبلت التدخل حول هذه القضية في فرنسا في مهرجان السينما (دوارنونيه) سنة 2019، طلبت منّي إحدى الرفيقات عدم النشر لأنه ليس وقت هذه القضية.
خوف، غياب وعي أو هوموفوبيا؟ أنا لا أملك جواباً، ولكنني أعلم أنّني قرّرت بعد وعيي باختلاف مبادئنا وأولوياتنا النسوية بتكريس كلّ مجهوداتي في مبادرتي الخاصة، وفقط مع رفيقات يؤمنّ بالتقاطعية، إذ أصبح تعاملنا مع البقية يركز على ما نقدمه من دعم ومساندة بكلّ أختية. فُرضت النسوية جهراً لكن بتعتيم مطلق على عدّة قضايا جوهرية. صمودنا اليوم اختار القطيعة المزدوجة: قطيعة مع أنظمة الحكم وقطيعة مع كلّ ممارسات المجتمع السلطوية وعقليات القطيع الواحد.
أثارت التهديدات في 2019 الشابات بصفة خاصة، مما أثار ضجة إعلامية حول النسوية، وتلقائيا تمّ التكلّم بصفة أساسية عن نضالات الماضي، وبأصوات أغلبها من الجيل الماضي؟ لماذا لا نكتب ماضينا المنسي مرّة واحدة، لنفسح المجال لنقاشات الحاضر؟
من أكبر تحديات نضالاتنا النسوية اليوم هو الاستمرارية والعمل المشترك بين كلّ الطاقات، ولكن رغم وعي الجميع بهذه الوضعية، غياب مساحات التقييم وهيمنة خطابات جروح الماضي، قد أثرت على العديد منّا. وإذا قمنا بتحليل ما يجمعنا اليوم، فهي المساندة الأختية لمبادرات بعضنا البعض، ولكن الأسئلة والنقاشات السياسية المهمة، والتي لن نستطيع خلق قوة ضغط من دونها لا تزال من المحرّمات. ربما نفسياتنا ليست مستعدة، وربما نحن نعيد إنشاء أنظمة الموالاة التي ربينا عليها.
من اشتكوا من التمييز بعد الاستقلال، أعادوا إنتاج نفس المعاملات بعد سنوات الإرهاب، حيث تغيّر الوضع الأمني والاستقرار بدون الاستفادة المتساوية للرجال والنساء من المكتسبات.
تساؤلاتي عن الاستمرارية، جعلتني أكتشف فوائد القطيعة، فمثلاً في مؤسسة الجريدة النسوية الجزائرية من أجل الإعلام والمبادرات النسوية، منحتنا القطيعة إمكانية عدم الضغط على رفيقاتنا كي يستجبن لاحتياجات اختلافاتنا، وأصبحنا لا نحتاج للبحث عن الشرعية لتناول المواضيع التي لا يحملها البقية. القطيعة تسمح لنا بأن نكون مختلفات، حتى أنها تبرهن لرفيقاتنا أنّ الاختلاف ليس جريمة. القطيعة لا تلغي تحدّي الاستمرارية، ولكنها تحرّرنا من ضغط غيابها.
في أيلول/ سبتمبر2022، نظمت جمعية “ثروة فاطمة نسومر”، ملتقى نسويات الغرب، وتكلمت رفيقة من جيل نبيلة جحنين عن تاريخ الحركة، ولما تكلمت عن فترة ما بعد التسعينات، وبعفوية تكلمت مباشرة عن حراك 2019 لذكر أننا تنظمنا وبقوة. ما لفت انتباهي أنّ هذا التناول لا يعترف بجيلنا، ولا بالحركات التي نشطت في العالم الافتراضي، حتى أنه يتجاهل أنّ هذا الجيل هو من دعا ونظّم أول الاجتماعات النسوية بين الأجبال في 2019، وهو من استعمل إعلامياً وبدون قيود لأوّل مرة كلمة النسوية. تناقشت مع المتدخلة بعد ذلك حول هذه الأمور واستنتجت أنّ الكثير لا يعي أنّ تاريخنا يشمل حاضرنا، وأنّ الاستمرارية لا تعني تبعية الحاضر للماضي، وأنّ التبادل من أجل التلقين لا يعني عمودية التلقين باسم العمر.
الغريب أنه بعيداً عن حلقاتنا النسوية، يعتقد الرافضون أننا حزب سياسي بفكر موّحد وبرنامج مشترك، وكلّما تكلمت نسوية عن موقفها، هُوجمت جميع النسويات، وهذا على علاقة بعقلية اختزال النساء على اختلافهن في امرأة…حقوق المرأة، دور المرأة. كلّ النساء مسؤولات عما تقوم به أي امرأة ولكن لن نطالب في وقتنا الحاضر رجلاِ بالاعتذار عمّا قام به ملايين الرجال!
أحاول اليوم فصل تساؤلاتي عن ممارساتي، لأنّ الأجوبة لن يكتبها إلا نقاش جماعي تتفاداه الكثير، وأعتبر أنّ مساهمتي في كتابة تاريخنا النسوي هي كلّ ما أستطيع القيام به للمشاركة في هذا النقاش حاليا.