بعد فيلمها الأول “جزائرهم” الذي ذهبت خلال صناعته في رحلة استكشاف لحكاية جزائريي فرنسا، ولأصولها الجزائرية من ناحية جديها، وكيف ترك الماضي الاستعماري أثره على حياتهما، تعود الممثلة والمخرجة لينا سويلم بفيلمها الوثائقي الطويل الثاني “باي باي طبريا” لتأخذ المشاهد/ة معها، في رحلة عابرة للتاريخ، تستكشف خلاله ماضي عائلتها الفلسطينية، الذي لطالما ظل غامضاً بالنسبة لها، من خلال قصة أربعة أجيال من نسائها، ومن خلاله القصة الفلسطينية ككل.
عبر سرد مكثف متشعب الخطوط، وتحرير فيلمي رشيق، يبدأ بإلقاء والدتها الممثلة هيام عباس، لشعر كتبته وهي في مقتبل العمر، تصاحبه موسيقى المؤلف أمين بوحافة، تنتقل لينا وكاتبتي السيناريو معها نادين ناعوس وغلاديس جوجو (التي عملت على مونتاج الفيلم أيضاً)، بين ما هو عام وما هو خاص، بين تاريخ العائلة، ووضعه في سياقه كجزء من التاريخ الجمعي للشعب الفلسطيني، بين مشاهد أرشيفية تظهر طبريا خلال النكبة، وهي تحكي عن تاريخ تهجير عائلة جدي والدتها، وطبريا أخرى وقد غيرت إسرائيل وجهها، خلال جولة للأم هيام مع أمها نعمت.
بهدف تغطية ماضي العائلة بصرياً، لجأت المخرجة إلى مشاهد أرشيفية مذهلة، كانت مبعثرة ويصعب الوصول إليها، عملت خلال سنوات ستة قضتها في صناعة الفيلم على جمعها، وأيضاً مقاطع من أرشيف فيديو والدها، الممثل عز الدين سويلم، التقطها خلال زيارته مع والدتها هيام لمنزل العائلة في دير حنا، لتعمل لينا لاحقاً على جعلها مع ما صورته هي، كتلة بصرية متجانسة.
تضع لينا مع شريكتيها في العمل، المشاهد/ة في مرجوحة عاطفية، لتمضي بمشاعره نحو أقصى مشاعر التعاطف والاستمتاع باللحظات العائلية الحميمية ثم نحو أقصى مشاعر الأسى على مصائرهن من الناحية الشخصية والجمعية.
لا تريد والدة لينا، هيام عباس، كشأن والدتها نعمت، وجدتها أم علي، فتح جراح الماضي وظروف رحيلها من قريتها دير حنا على بحيرة طبريا إلى باريس، لكن عندما تقبل دعوة لينا أخيراً، تنهمر من الجراح حسرات ترحيل جيل الأمهات والجدات من طبريا، ضحكات تبادلوها في فيديوهات مسجلة على مدار زياراتها مع لينا لدير حنا، وأخرى خلال حوارات لطيفة وطريفة عن الماضي سُجلت خلال زيارات لأجل صناعة الوثائقي، تتحدث فيها شقيقاتها كيف كانت هيام “دون جوان العائلة.. علاقة جديدة مع شاب كل يوم”.
وإن كانت لينا قد حاولت طمأنة مخاوف والدتها ، بألا يتحول فيلمها إلى بورتريه لها، لكن هيام عباس تبقى شخصية مفتاحية في الفيلم، تعيد معها بناء صورة لتاريخ العائلة، متوقفة معها عند “تمردها” على عائلتها واتخاذها قرار مغادرة فلسطين إلى فرنسا لتصبح لاحقاً ممثلة بارزة في أوروبا وفي هوليوود، وكيف تمكنت من اصلاح علاقتها مع عائلتها، قبل أن تنتقل لينا نحو الصورة الأكبر للعائلة، والحديث عن جدة والدتها وعمتها التي فرقتهما النكبة، وما خلفه ذلك من تراوما تعاملن معه على مدار عقود.
رغم اعتياد هيام، الوقوف أمام الكاميرا، وهي التي تملك في رصيدها حوالي مئة عمل سينمائي وتلفزيوني، آخرها دورها في مسلسل “سكسيشن”، إلا أن الممثلة هيام أمام تجربة مختلفة في هذا الفيلم، لا تستحضر خلالها مشاعر شخصيات أخرى من سيناريو مكتوب، بل مشاعر مرتبطة بما مرت به طوال العقود الماضية، ولحظات شخصية فاصلة في حياتها، تحاول استعادتها والسيطرة على نفسها وهي تمثلها، كأدائها إحدى المشاهد مع ممثل فلسطيني، يلعب دور والدها المعارض لزيجتها الأولى من رجل بريطاني، في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس.
يأتي عرض الفيلم في وقت تدور رحى حرب بروبغاندا تنتزع فيها من الشعب الفلسطيني إنسانيته. هذا ما تبدى في سؤال طرحته قناة “راي أونو” إيطالية على مخرجة الفيلم لينا بعد عرض الفيلم، كما روت، مفاده ما إذا كان لدى العائلة الفلسطينية “إحساس العائلة”؟، ما ذكرها بأنه يتوجب عليهم كفلسطينيين/ات الكفاح كل يوم لإثبات أنهم بشر.
لا تقدم لينا في الفيلم قصة عائلة مسيسة، لكن مع ذلك، تظهر في سياق السرد كيف لا تستطيع أية عائلة فلسطينية سوى اعتبار “السياسة” مسألة شخصية.
ولا تقع الممثلة والمخرجة، بسردها الشاعري الهادئ، غير المعتمد على الاقحام، في فخ الخطاب المباشر، ويصبح الحديث عن النكبة وتهجير إسرائيل ل ٧٠٠ ألف فلسطيني/ة، جزءاً أصيلاً من القصة، وعنوانه الذي به بدأت به كل مآسي العائلة، وتعامل كل فرد فيها مع تبعاته لأجيال لاحقة، عندما قطعت الحدود أوصال علاقاتهم الشخصية.
فبعد أن قضى جد والدتها هيام، قهراً مما جرى لهم في النكبة، كافحت الجدة أم علي لتربي عائلتها الكبيرة، ومن بعدها نعمت، والدة هيام، التي تمكنت رغم تربيتها عشرة أطفال من العمل كمعلمة، هي قصة كفاح نسائي عابر للأجيال، نساء تعلمن البدء من جديد وترك كل شيء ورائهن.
تتذكر هيام كيف تمكنت عمتها حسنية التي تقطعت بها السبل في سوريا لعقود بعد تهجيرهم عام ١٩٤٨، من العودة بعد ثلاثين عاماً، بطريقة اعجازية إلى طبريا ولقاء والدتها وعمتها،احتضانهن بعضهن لساعات كقطع مغناطيس، ثم تتذكر زيارتها لاحقاً لعمتها في مخيم اليرموك في دمشق كمواطنة فرنسية، معتبرة مجرد قدرتها الوصول إلى سوريا انتصاراً، واصفة لقائهما العاطفي الذي ظلت خلاله عمتها لساعات تشمها وتخبر أهالي المخيم بأن ضيفتها قادمة من فلسطين وهي تحمل رائحة الأهل معها.
عُرض الفيلم في بعض من أبرز مهرجانات الأفلام الوثائقية في العالم ك “دوك لايبتزغ” و”إدفا”، وكذلك في مهرجاني تورنتو وفينيسيا، وفاز بجائزة ” جريرسون” للأفلام الوثائقية في مهرجان لندن للأفلام، وأرسلته مؤسسة السينما الفلسطينية ليمثلها في سباق الترشح للأوسكار، ولم يصل إلى المنافسات النهائية.
وما زال الفيلم يشارك في المهرجانات، وبات في الأثناء متوفراً للمشاهدة على شبكة “آرتيه” الألمانية الفرنسية، التي شاركت في إنتاج الفيلم، وذلك حتى منتصف شهر فبراير القادم، عبر الرابط هنا.