في صباح الخامس عشر من أبريل 2023، عندما استفاق السودانيون على أصوات إطلاق النار، لم يتخيّل أحد بالطبع أن حياته ستتغير إلى الأبد. والآن، بعد مضي أكثر من ستة أشهر، ما زال من الصعب فهم كيف أصبح البلد، الذي شهد مؤخرًا ثورة مذهلة ألهمت العالم أجمع، ساحة معركة، غارقة في صراع عنيف على السلطة. ومع تدهور الوضع في البلاد وانزلاقه نحو أزمة هي من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ، يبدو أن فرص التوصل لحل قريب للحرب ضئيلة. فقد فشلت مبادرات الوساطة المتعددة، وكلا الفصيلين المتحاربين، القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع شبه العسكرية (RSF)، مصممان على تحقيق النصر العسكري على الرغم من التكاليف الباهظة. ومع ذلك، تُواصل العديد من الجهات المحلية والدولية الدعوة إلى حل سياسي توافقي لإنقاذ البلاد من الانهيار الكامل، الذي قد يجر المنطقة بأسرها نحو الصراع وعدم الاستقرار.
أسباب الصراع
في ديسمبر 2018، خرج الشعب السوداني إلى الشوارع لإنهاء حكم نظام الرئيس عمر البشير الفاسد. وبعد أشهر من الاحتجاجات التي قوبلت بعنف شديد، أُطيح بالبشير في أبريل 2019. وبدأت فترة انتقالية، شُكّلت خلالها حكومة ائتلافية مدنية عسكرية لقيادة البلاد، بأمل بإرساء أسس حقيقية للديمقراطية في السودان. لكن تبين أن هذا الترتيب لتقاسم السلطة بين القوى العسكرية والمدنية كان هشًا للغاية، بسبب المشاكل الهيكلية في الاتفاق والمشاحنات بين شركاء المرحلة الانتقالية.
في نهاية المطاف، انهارت جميع الجهود المبذولة لإنقاذ العملية الانتقالية، عندما قام الفصيل العسكري بتنظيم انقلاب في أكتوبر 2021، محطماً أحلام التسوية الديمقراطية. وقد أدى الانقلاب إلى ابطال ثورة ديسمبر 2018 وأيقاف العملية الانتقالية.
وعلى الفور عاد الشعب السوداني لإحياء حركة المقاومة والتعبئة ضد الانقلاب، بينما قامت العديد من المبادرات بمحاولة ابطاله. ومن أهم هذه المبادرات، كان الاتفاق السياسي الاطاري، بقيادة الآلية الثلاثية المكونة من بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (UNITAMS)، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (IGAD). وعلى الرغم من استياء العديد من المجموعات الشعبية لعدم إدراجها في المبادرة بشكل فعّال، بدا أن الاتفاق يُمضي قدمًا، ويقترب من التوصل إلى اتفاق مع القادة العسكريين.
شملت المراحل النهائية تنظيم ورش عمل لحل القضايا الخلافية، بما في ذلك إصلاح القطاع الأمني. أثارت قضية الترتيبات الأمنية، التي تضمنت مناقشات حول دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية، التوترات بين قادتيهما. وهكذا انصبّت كافة جهود الوسطاء والجهات المدنية على تهدئة التوتر بين الفصيلين الأمنيين. ومع ذلك، استمر تصاعد التوتر وسط دعاية الحرب التي روج لها حلفاء نظام البشير السابق، حتى اندلع النزاع العنيف في منتصف أبريل. ولا يزال من غير الواضح أي جانب فتح النار أولاً في هذه الحرب المدمرة، حيث يتهم كل طرف الآخر باشعالها.
مسار الحرب
تسبّبت الحرب المستمرة في معاناة انسانية هائلة، بما في ذلك تدمير البنية التحتية، وأعمال السلب، ونهب المنازل والشركات. وقد فرَّ حوالي 5.5 مليون شخص من منازلهم، بحثًا عن مأوى داخل السودان أو في الدول المجاورة في ظل ظروف مزرية. وهذا يعني نزوح أكثر من 30,000 شخص يومياً، فرَّ أغلبهم بلا شيء سوى الملابس التي يرتدونها. أصبح السودان أسرع بلد في العالم يشهد تزايد أزمة النزوح. وشمل دمار البنية التحتية الواسع تدمير المستشفيات والمدارس والمباني الحكومية وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات. وقد نُهبت أو دُمرت العديد من المصانع والأعمال التجارية والمنازل. وما زال القتال يُلحق الدمار بالمدنيين، ويعرّضهم للموت والاغتصاب وفصل العائلات وانتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي. كما يعيش النازحون داخليًا في ظروف إنسانية خطيرة، مع صعوبة في الحصول على الطعام والمياه والمأوى والكهرباء والتعليم والرعاية الصحية. نصف سكان السودان معرضون للخطر حاليًا ويحتاجون إلى المساعدة الإنسانية والحماية العاجلة.
وبينما تتركز المعارك بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في الخرطوم، عاصمة السودان، لا تقتصر الحرب على الخرطوم فحسب، بل امتدت إلى مناطق متعددة، بما في ذلك منطقة دارفور التي مزقتها الحرب سابقًا. وأدى الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى نشوب حرب أهلية هناك، مع تقارير عن جرائم حرب بشعة وانتهاكات ضد المدنيين. وقد اتُهمت قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها بارتكاب مجازر عرقية، حيث قُتل أكثر من 10,000 شخص في غرب دارفور وحدها. إن خطورة الوضع الإنساني في دارفور لا مثيل لها، وهو بلا شك غير مُغطّى إعلاميًا بشكل كاف. والحقيقة أن دارفور هي دليل حي لما قد يبدو عليه السيناريو الأسوأ الذي يخشاه الكثيرون، أي اندلاع حرب أهلية شاملة، إذا استمرت الحرب في السودان دون رادع.
وقد واجهت الجهود الإنسانية تحديات كبيرة. فتقديم المساعدة الإنسانية في صراع محتدم يواجه عقبات أمنية ولوجستية ضخمة، ولم تتمكن الاستجابة الإنسانية الدولية على مواكبة نطاق الأزمة في السودان وحجمها. فلم تستطع الوكالات الإنسانية ضمان سلامة موظفيها، حيث قُتل 19 عامل إغاثة منذ بداية الصراع. ويقول المسؤولون الإنسانيون إن تصاعد النزاع في السودان دفعهم لمحاولة “التخطيط لوقوع الكارثة“، مع تعطل خطوط إمداد المساعدات وتزايد نزوح العديد من الأشخاص بمعدلات غير مسبوقة، سواء داخليًا أو عبر حدود البلاد. ومع ذلك، فقد ذكر وكيل الأمين العام السابق للأمم المتحدة والمستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية، إن العالم يجب أن يكون قد تعلم من مآسي الماضي لسن استراتيجيات إنسانية أفضل، مشيراً إلى أن “ما يحدث في السودان يجب أن يكون مصدرًا للعار، وندبة على إنسانيتنا الجماعية“.
استجابة المجتمع المدني السوداني
في حين تُصارع الوكالات الإنسانية الدولية في استجابتها للأزمة، ظهرت جهات محلية لملء الفراغ، حيث تحركت مجموعات شعبية مختلفة وقدمت المساعدة للمدنيين. وهذه ليست ظاهرة جديدة في السودان، فالبلد يتمتع بسجل حافل من الحركة المدنية النضالية وتقليد عميق للعمل المدني الجماعي. وتشمل هذه الحركة المدنية السودانية مجموعة من الكيانات المدنية، مثل منظمات المجتمع المدني ونقابات العمال والأحزاب السياسية ولجان المقاومة. ومن المتفق عليه عمومًا أن لجان المقاومة كانت روح الحركة الديمقراطية في السودان. وهي عبارة عن آلاف المجموعات الناشطة التي نشأت في أحياء متفرقة في السودان، وأصبحت على ما يبدو وكلاءً سياسيين جدد، ويمكن القول أن هذه اللجان أصبحت أكثر الجهات فاعلية في المجالات السياسية في السودان. إذ تشارك في العديد من الأنشطة، مثل تنظيم الاحتجاجات ودعم ضحايا الاعتداءات والظلم، والعمل على تنسيق جهود المقاومة والمناصرة مع الحكومات المحلية، وحملات حقوق الإنسان. وعلاوة على ذلك، فقد نشطت في تقديم الخدمات لأحيائها.
بعد اندلاع الحرب في السودان، لعبت لجان المقاومة دوراً إنسانياً حاسماً. وسرعان ما تحولت إلى أول المستجيبين الإنسانيين في السودان، بهدف توفير الخدمات التي اختفت بسبب انهيار الدولة السودانية. وما زالت هذه اللجان تسعى جاهدة لمساعدة السودانيين الذين تضرروا من الحرب. فأسست “غرف الطوارئ” لتوفير الحماية الاجتماعية والإغاثة الإنسانية للمواطنين المتضرربن من الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. بموارد محدودة للغاية، نظمت غرف الطوارئ مطابخ جماعية محلية لإعداد الطعام للناس، وإصلاح المستشفيات التي تضررت وإعادة فتحها، وتوفير الإمدادات الطبية، فضلاً عن تعبئة فرق من الأطباء المتطوعين كأول المستجيبين لتقديم المساعدة للمصابين والمرضى المزمنين. كما قامت هذه اللجان بتنسيق الإجلاء الآمن للمدنيين من مناطق الخطوط الأمامية، وإصلاح الأنظمة الكهربائية لإعادة الطاقة إلى المراكز الطبية، وعملت على تحديد مكان المفقودين ولم شملهم مع أسرهم. وغالبًا ما تكون هذه الخدمات محفوفة بمخاطر شخصية كبيرة، حيث اعتقلت الفصائل المتحاربة العديد من أعضاء غرف الطوارئ، وبعضهم قُتل أثناء تقديم الخدمات.
إنهاء حرب السودان: فوضى الوساطة
من الواضح أن المجتمع الدولي يواجه تحديات كبيرة في الاستجابة للصراع في السودان، حيث أن تأثير الجهود الدبلوماسية التقليدية محدود للغاية. علاوة على ذلك، تعاني المبادرات المختلفة التي شهدناها حتى الآن لإيجاد طريقها، ويبدو أنها مجزأة وتتنافس مع بعضها البعض بدلاً من التنسيق. في بداية مايو، عقدت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية محادثات مع قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية في جدة. وكان من المفترض أن تشكل هذه المبادرة وساطة واسعة تضم جميع الوسطاء الدوليين والجهات المدنية السودانية. عوضًا عن ذلك، استبعد منبر جدة الدول الاقليمية الرئيسية والجهات المدنية السودانية، مما أدى إلى ظهور منابر أخرى. وعلى الرغم من التوقيع على عدة اتفاقيات وقف إطلاق النار خلال منبر جدة، إلا أنها نادراً ما احتُرمت.
وبعد فترة وجيزة، انضمت الكتلة الإفريقية لشرق افريقياIGAD إلى جهود الوساطة. ومع ذلك، تفتقر IGAD إلى عضوية لاعبين إقليميين مهمّين، وهما تشاد ومصر. ردًا على استبعادهما من جدة وIGAD، تعاونت مصر وتشاد لإقامة وساطة أخرى، وهي مبادرة الدول الجارة. خلال شهر يوليو، اجتمعوا في القاهرة، بمشاركة رؤساء دول جيران السودان. وبالإضافة إلى ذلك، هناك مبادرة الاتحاد الأفريقي، التي تركز في المقام الأول على عقد اجتماعات للمدنيين السودانيين، لكنها لم تنجح حتى الآن في عقد أي اجتماع. ولا يوجد شفافية أو وضوح حول عقبات العملية.
يُضعف تعدد المنابر تأثير الوسطاء ويؤدي إلى مجموعة مقترحات غير منسقة. لن تكون هذه المبادرات فعالة، ما لم تتضافر الجهود وتعمل معًا، وتُشرك الدول الإقليمية التي تتمتع بنفوذ أكبر، مثل مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، فضلاً عن القوى العالمية الأخرى. وبالتالي، فإن المهمة العاجلة في هذا السياق هي خلق تأثير كافٍ على الأطراف المتحاربة لإيجاد فرصة لحل سياسي. كما يجب أن تشمل جميع المحادثات الجهات المدنية السودانية، باعتبارها أطراف معنية لديها دور أساسي في إنهاء الصراع. على هذا النحو، يجب أن يُدرك المجتمع الدولي أنه لا يوجد حلاً سريعاً وسهلاً لإنهاء حرب السودان، حيث أن الحلول التجميلية من خلال المحادثات السريعة بين النخب لن تكون كافية. هناك حاجة ماسة للمعنيين دولياً بإعادة تقييم استراتيجياتهم الحالية والتخلي عن نهجهم المتسرع والمتجزأ، الذي يُرضي الأطراف المتحاربة ويتجاهل المدنيين السودانيين.
لا شك أن الصراع المستمر في السودان يحمل في طياته القدرة على إشعال نيران الحروب الاقتصادية والاجتماعية والقبلية والعرقية عبر المنطقة بأسرها، وعلى الأرجح أيضاً خارجها. ولذلك، يستحق الشعب السوداني، برغبته في الديمقراطية والازدهار الاقتصادي، الحصول على دعم واهتمام أكبر من العالم لإنهاء الكابوس المروع الذي يعيشه طوال الأشهر الستة الماضية.
مفتاح
للتعرف على المزيد حول السودان هنا بعض المقالات والكتب والمواقع الإلكترونية المختصة لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وحسابات النشطاء والصحفيين:
https://www.hurstpublishers.com/book/sudans-unfinished-democracy/
https://x.com/sudanwarmonitor?s=20