عام قد مر، عام من الإبادة والقتل والتدمير والتهجير، تحت أنظار العالم بأسره. عام مضى ونحن هنا، عاجزون أمام هذا القتل والتدمير والتهجير الممنهج. نصرخ في فراغٍ لا يسمعنا، نبكي على جراح لا تندمل، ونتظاهر أمام جدران من الصمت المطبق. نشارك صور المجازر ونكتب عن عنف لا ينتهي، نناشد العالم “الغربي الأبيض المتحضر“، لكن لا شيء. نعيش في ظل عنف فعلي ورمزي، لا يريد أن يراه الكثيرون، لكنه يقتلنا ببطء. عنف صارخ وصامت يحوّل معاناتنا إلى قصص استهلاكية في قاعات العالم الأول.
عام قد مر، ولم يعد هناك من مكان لأي حوار. الكلمات استُنفدت. من يعرف ويصمت فهو شريك في الجريمة، شريك في الإبادة. لم يعد التضامن العابر كافيًا؛ بل مواجهة تلك المجتمعات التي تخشى النظر إلى نفسها في المرآة، ودفع بعض الأثمان. الكل يستفيد من حياتنا العارية، ويخشون الاعتراف بأن الامتيازات التي يتمتعون بها، والحداثة التي يتفاخرون بها، والسلام الذي ينعمون به، قائمين في جوهرهم على تدميرنا، على استمرار قتلنا تحت مسميات مختلفة، وعلى اعتبارنا كائنات بلا حياة أو قيمة إنسانية في عيون الحداثة الاستعمارية. حداثة تبرر الإبادة والقتل الممنهج، تسكتنا بلا هوادة، ولا ترى فينا سوى ضحايا، أضرار جانبية، أو إرهابيين متخلفين، لا تاريخ لنا ولا حكايات. مجتمعات فردانية متوحشة تجردنا من إنسانيتنا، تخطط لقتلنا، بينما تغض الطرف عن معاناتنا. تتواطأ في صمتها، وتحوّل قصصنا إلى مواد لأبحاثها وأطروحاتها، بينما نحن ننزف.
عام قد مر، وما زالوا يأتون إلى بلادنا، يأكلون من طعامنا، يرقصون على موسيقانا، ويكتبون عنا وكأنهم يملكون حق تفسيرنا. يعلموننا كيف نتحرر من ‘تخلّفنا‘، وكيف نصلح مجتمعاتنا، متجاهلين أن المشكلة الحقيقية تكمن في أنظمتهم التي تسلبنا أرضنا، وحريتنا، وحقنا في الحياة. يعودون إلى بيوتهم الدافئة، يخشون على امتيازاتهم الهشة، فلا يواجهون مجتمعاتهم وأنظمتهم ومؤسساتهم وجامعاتهم التي تساهم في قتلنا. لا يتحدثون عن حداثتهم وتمدنهم الزائف. يطورون أسلحتهم المدمرة وذكاءهم الاصطناعي ويتفاخرون بها، يخلقون استعمارًا متجددًا ومستمرًا، استعمارًا للأفكار والسرديات. يراقبوننا، ويختارون من عليه أن يعيش ومن يجب أن يموت. يفرضون علينا تصوراتهم، ويحيلوننا إلى مادة لأبحاثهم، بينما يستمر العنف الحقيقي في تدمير أجسادنا وأراضينا.
عام قد مر، وما زالت الآلة الوحشية تواصل نهش أجسادنا، متنقلة بين فلسطين ولبنان وسوريا وما بعدهم. جثث متناثرة هنا وهناك، أكياس سوداء وبيضاء تحوي أجسادًا ممزقة وأشلاء مبعثرة. الكلمات انتهت وتلاشت في ضجيج النفاق الأبيض والإبادة. بقينا وحيدين، غارقين في صمتٍ مدوٍّ، نحترق سواء في بلادنا أو في غربتنا.
عام قد مر، وكل شيء مات. نسير من قبرٍ إلى آخر، نبحث عن ذكرى هنا وهناك، نبحث عن شظايا معانٍ مفقودة. نبكي حتى فاضت أرواحنا بالبكاء والآلام والظلمات. لم يبقَ لنا سوى محاولة البحث عن معانٍ ومعارف ولغة من مكان آخر، من إرث مناطقنا وأماكن تشبهها. هناك، بين الحكايات القديمة والقصص المنسية، قد نتصالح مع جزء من تاريخنا، نعيد اكتشاف ذاتنا المسلوبة، ونستمد منها طاقة لفهم حاضرنا وبناء مستقبلنا. الموروثات التي نراكمها قد تحمل في طياتها بذور اسقاط السرديات المهيمنة. نفكك هذه السرديات، لا لنقبل بما فرضوه علينا، بل لنستعيد قصصنا التي دفنت في ظلال الماضي، ونكتب مستقبلنا بلغتنا الخاصة، لغة وُلدت من دماء أمهاتنا وأجدادنا، حاميات ذاكراتنا وتاريخنا، ومن معاناتنا التي تُغذينا كل يوم. فمهما حاولوا طمسنا تحت شعارات فارغة عن التحرر والتمدن، سنعيد كتابة تاريخنا بلغتنا الممزوجة بالوجع والمقاومة. سنعيد ابتكار معانينا الخاصة التي تفلت منهم، وتعكس تجاربنا وقصصنا، ونرفض أن نكون ضحايا في كتبهم.
عام قد مر، ومعه انهارت كل المعاني. ما تبقى هو فراغ ثقيل يملأ كل شيء. لم ينجُ أحد، لا من بقي في البلاد ولا من رحل عنها. من لم يمت، يحمل خسائره محاولًا لملمة ما تبقى من حياة مفقودة. نحمل الأماكن التي فقدناها، التي لا تغادرنا أبدًا، بل تبقى كأثقالٍ في قلوبنا، تتراكم كالغبار في ذاكرة مكسورة، وتنفجر في وجوهنا مع كل لحظة ألم متجددة.
عام قد مر، وما زالوا يحاولون إسكات أصواتنا، يلاحقون من يتكلم، يطاردوننا في أماكن عملنا وفي الشوارع، وحتى في حياتنا الضيقة وعقولنا. يخشون الكلمات والأفكار والذكريات التي قد تزعزع صورتهم المثالية عن أنفسهم. لكننا سنحمل ما تبقى من ذاكرتنا وقصصنا معنا أينما ذهبنا. سنرويها مهما طال بنا الزمن. سنرويها مرارًا وتكرارًا، نراكمها ونغربلها، ونورثها لأبنائنا وأحفادنا، ليس فقط بألسنتنا، بل في قلوبنا وأغانينا، في كتبنا ورواياتنا.
سنروي العنف الذي عايشناه، والوجع الذي نحمله معنا أينما حللنا. وجع متوارث عن الذين سبقونا، نحمله منذ لحظات الانكسار الأولى. وجعًا لن يفهمه أو يشعر به إلا من عايشه. سنروي سرديتنا وتاريخنا وقصصًا وُلدت من دماء أجسادنا ومن رماد بيوتنا. ليست قصصًا للشفقة أو للتعاطف، بل قصصنا الشخصية، قصص نضالاتنا الصامتة والصاخبة، وأخطائنا المتكررة. قصص قرانا ومدننا وبيوتنا التي خسرناها مرارًا وتكرارًا، وقصص محاولات رعاية بعضنا البعض. قصص تذكرنا بأننا لسنا مجرد ضحايا وأرقام، بل شعوب تفرح، تبكي، تندم، وتخطئ. شعوب تقاوم استعمارًا لا ينتهي، وعنفًا تاريخيًا يتجدد باستمرار.
سنروي أحلامنا الضائعة في بحر الظلمات، ونضالاتنا ضد أنظمة قمعية ومجتمعات ظالمة وأحزاب قاتلة، هي جزء من استعمار مزمن ينهش في أرواحنا منذ الأزل. سنتحدث عن كوابيس بلادنا، عن محاولات الهروب والنجاة، وعن أحلام بعضنا بالعودة. سنتحدث عن أراضٍ مسلوبة وحقوق مغتصبة هنا وهناك، عن بلاد امتلأت بالسجون وبظلمات أهلها. سنروي ونروي إلى ما لا نهاية، ونفيض العالم بقصصنا وآلامنا وحكاياتنا.
سنروي قصة الوحش الذي صنعته أنظمة وشعوب غربية، الذي تغذيه بأكاذيبها ونفاقها. سنروي كيف يستمرون في تبرير العنف والإبادة تحت ستار الإنسانية المزعومة. سنحكي لهم ما شهدناه من ديستوبيا لا نهاية لها، علهم يدركون في يوم ما أن ما نعيشه اليوم هو مستقبلهم الحتمي. هو نتاج حداثتهم ونتيجة لصمتهم الطويل وخوفهم على امتيازاتهم وحيواتهم الفارغة.