اعتادت الدوائر النشطة من نساء الجنوب العالمي، ولا سيما النساء من العالم العربي، أن يقفن في الثامن من آذار (مارس) للتأكيد على أن هذا اليوم هو يومٌ نضاليٌّ وليس يوماً احتفالياً.
لسنا بحاجةٍ لتكرار هذا التقليد الخطابي هذا العام.
الواقع المروّع الذي يتكشّف أمامنا في غزة، وردود الفعل العالميّة بصدده، لا يحتملان انتظار أن تدرك هذه «البلاغة» منتهاها. وإذا ما احتمل التاريخ في هذه اللحظات شديدة البطش أن يحضر مشهدٌ للكلام، علينا أن نقول، كوسيطاتٍ وفيّاتٍ له، إن هذا الثامن من آذار تاريخيٌّ لأنه يرتد بصناعة معنى وتكثيفٍ مادي لزخمٍ نسويٍّ نضالي بفعل ما يحدث في فلسطين.
من بين جملة ما فعلت غزّة أنها عرّت، إلى غير رجعة، النسوية النيوليبرالية التي إما وقفت تتفرج ببلادةٍ عاطفيّة، أو ساهمت فعلياً بالإبادة رافعةً في وجوه الضحايا ما يبدو قبل لحظة الإبادة كفنون خطابية استعراضية: التمثيل، والفرص المتكافئة والمساواة، فتتحوّل هذه «الفنون» في لحظة الإبادة إلى كتّلٍ خطابية تنزل على رؤوس الضحايا كحممٍ بركانية. ليعود السجال إلى بديهيات الحقيقة الأولى: مَن سيبقى حياً ومَن سيموت قد جادَلَ أم لم يفعل ذلك؟
هذه النسوية التي تدافع عن المساواة دون أن تدافع عن الحق الفعلي بالحياة لبنات وأبناء الأرض المسلوبة، ودون أن تدافع عن حقهم الأساسي في الدفاع عن حيواتهم المسلوبة أيضاً، تحملُ بعد المذبحة كعك ماري أنطوانيت، أو بدائله في العالم الحديث: إسقاطٌ جويٌّ لفتات خبزٍ على رؤوس مَن لا يعرفون لماذا تكيل لهم السماء كل هذا الحقد. أو أنهم يعرفون!
يقعُ هذا الخطاب، ولكنه حتما لا يترك فراغاً. فنساء المنطقة يناضلن منذ عقود، ولم ولن ينتظرن قيادةً خطابيةً أو فعلية عليهن، وهنّ أكيداتٌ أنهن وحدهن القادرات على الحديث باسمهن، والآن أكثر من أي وقت مضى. فَلتُترك الآن المساحة لصانعاتها الحقيقيات، لأجيالٍ من النساء والناشطات النسويات من العالم العربي والجنوب العالمي، لأجيال الحراكات الشعبية والربيع العربي وما بعده، لمن قُدن في الشوارع وفي المدارس وفي البيوت، ومن كتبن ونظّرن وطُوردن وقاتلن وأوجدن بدائل وغيّرن.
ما كانت الوكالة الإنسانية التحررية إلا لهنّ، وعلى هذه الوكالة بأبجدياتها كلها أن تعود لهنّ اليوم أيضاً.