على مدى الخمسة عشر عامًا الماضية، سعى مهرجان الفيلم العربي برلين “الفيلم” إلى طرح القضايا والمشكلات من العالم العربي من وجهة نظر سكان المنطقة من مختلف الأقاليم، لتعريف الجمهور الألماني عامة والبرليني خاصة بهذه القضايا بعيدًا عن التناول السطحي أو الفوقي أو الاستشراقي. ويعود هذا العام في الفترة من 24 إلى 30 أبريل/ نيسان الحالي ليحتفي ببلوغه العام الخامس عشر من فتح مساحة الحوار والتفاهم هذه بين الثقافتين العربية والألمانية عبر السينما العربية وانتاجاتها المتنوعة.
فلسطين في البال
لم تغب فلسطين عن المهرجان منذ نسخته الأولى، فقد كرس “الفيلم” نفسه أيضًا لعرض السينما الفلسطينية في برلين، حيث عمل المهرجان على استقطاب أفلام من فلسطين عُرضت في أبرز المهرجانات السينمائية الدولية حول العالم، وحازت على جوائز مرموقة. تعلق مديرة المهرجان باسكال فخري: “لأسباب عديدة، نادرًا ما تُعرض هذه الأفلام على الشاشات الكبيرة في ألمانيا، لذا اعتبر “الفيلم” كونه مهرجانًا سينمائيًا عربيًا، أن دوره يتمثّل في عرض هذه الأفلام وتوفير منصة لصانعي/ات الأفلام الفلسطينيين/ات لإسماع قصصهم/ن في ألمانيا”.
يفتتح المهرجان هذا العام فيلم “باي باي طبريا”، وهو فيلم وثائقي من إخراج لينا السوالم، ومن إنتاج فرنسي، فلسطيني، بلجيكي، قطري (2023)، والذي يعرض للمرة الأولى في برلين، ويحكي قصة لينا الشخصية التي تصور نضالات وآمال ومخاوف النساء على مدى أربعة أجيال – وهي قصة تُعيد سرد تاريخ فلسطين بشكل وثيق، وتشكيل تجارب شعبها بشكل عميق مع التهجير والسلب والنفي، عبر لقطات أرشيفية ومقاطع الفيديو العائلية القديمة والصور الفوتوغرافية.
عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان البندقية السينمائي الدولي وقام بجولة في العديد من المهرجانات حول العالم، وفاز بالعديد من الجوائز، بما في ذلك أفضل فيلم وثائقي في مهرجان لندن السينمائي وجائزة لجنة التحكيم في مهرجان مراكش الدولي للسينما. “باي باي طبريا” هو الفيلم الروائي الثاني للينا سوالم.
وأشارت فخري إلى أنه على مر السنين، دُعي جمهور المهرجان للتفاعل مع وجهات النظر العربية المؤيدة للفلسطينيين/ات حول الصراع العربي الإسرائيلي، “حيث أن فلسطين ونضالات شعبها كانت وستظل مركزية في بناء الهويات العربية، ولذلك يوفر المهرجان لجمهوره وضيوفه مساحة لإجراء نقاش محترم ومفتوح، حول هذه الأسئلة أيضًا” كما قالت.
يأتي المهرجان هذا العام في ظل انتقادات وُجّهت للسلطات الألمانية وعلى رأسها مجلس الشيوخ ببرلين بتسكيت الأصوات الفلسطينية الداعمة لها. عن ذلك تقول فخري: “خلق المهرجان مساحة آمنة للحديث وتناول القضية الفلسطينية في برلين، دون أن تكون تحت تأثير الرواية الألمانية، بالإضافة لمنح مساحة من الحرية للحديث عن هذه القضية دون حواجز ومحظورات، ومن وجهة نظر الأشخاص الذين يعيشونها ولهم تجارب من داخلها”.
يسلط قسم بقعة ضوء “الفيلم” لهذا العام على فلسطين كسبب للتداعيات الإقليمية والعالمية، وليس فقط مرتبطة بالسيادة الإقليمية، تحت عنوان “هنا هو مكان آخر: فلسطين في السينما العربية وخارجها”، حيث يستكشف برنامج المهرجان الطرق المتنوعة التي تتكشف بها أشواق ونضالات الشعب الفلسطيني من خلال اللقاءات الحميمية، وقصص التضامن، ورحلات استكشاف الذات، ليضم مجموعة متنوعة من الإنتاجات السينمائية العربية والعالمية، بما في ذلك أعمال جان لوك جودار، وكوستا جافراس.
وأشار فادي عبدالنور، أحد مؤسسي/ات المهرجان وعضو اللجنة المنظمة إلى أن وجود هذا المهرجان ومن وراءه مؤسسة قوية هو أمر مهم في الوقت الحالي “وإلا لكان المحتوى العربي والفلسطيني محدود جدًا” حسب تعبيره، وأضاف: “تعتبر هذه الفعالية مهمة في مثل هذا الوقت ليس فقط بسبب المحتوى، ولكن أيضًا لأنها تقدم شكلًا من أشكال التضامن والتمكين للجالية العربية التي تنتظم مؤخرًا، وبشكل مكثف، في عمل سياسي وتضامني مع غزة في الحرب المستمرة عليها منذ نصف عام، ولم يعد لديها الوقت أو الطاقة لتصارع على بقائها وهويتها”.
ومن الفعاليات المميزة التي يستضيفها المهرجان هذا العام هو فيلم (فلسطين – سردية منقّحة) من إنتاج المهرجان والذي سيعرض يوم الأحد 28 أبريل/ نيسان في سايلنت غرين الثقافي، وهو فيلم مدته 30 دقيقة يتكون من مقاطع صامتة صورتها القوات البريطانية في فلسطين بين عامي 1914 و1918، مصحوبة بتصميم صوتي خاص لرنا عيد وموسيقى من تأليف سينثيا زافين.
خمسة عشر عامًا
أنطلق “الفيلم” في 2009 بجهود مهتمين/ات بصناعة السينما العربية وأهميتها في صياغة الوعي العام والثقافة، لتقديم صور متنوعة للثقافات المختلفة الموجودة في المنطقة العربية، من وجهة نظر سكان المنطقة وصناع/ صانعات الأفلام فيها. وقد استمر هذا المهرجان في النمو والتوسع كل عام، حتى إنه حصل على تمويلًا مستدامًا مرتين، في 2020 و2024، من إدارة الثقافة وأوروبا بمجلس الشيوخ في برلين.
يحتفي المهرجان هذا العام بمناسبة مرور خمسة عشر عامًا على انطلاقته ببرنامج خاص تحت عنوان “الفيلم”: 15 عامًا من السينما العربية في برلين، والذي يتضمن حلقة نقاشية بالتعاون مع أفريكاميرا، والتي ستُعقد يوم الجمعة 27 أبريل/ نيسان في سينما ترانستوبيا، حول مسألة وجهات النظر العربية والإفريقية في المشهد السينمائي الألماني الحالي.
يقول عبدالنور: “استمر المهرجان طوال هذه السنوات بجهود العاملين/ات فيه، بشغفهم/ن واهتمامهم/ن، وفي الوقت نفسه، بفضل شغف الجمهور وإقباله، حتى في السنوات التي عمل فيها المهرجان بدون تمويل كان تجاوب الجمهور كافيًا ليرفد المهرجان بدعم صغير، ولكنه كان كافيًا للمنظمين/ات ليستمروا/ن.
وعن أهمية المهرجان أوضح عبدالنور: “خلال السنوات القليلة الماضية، كان مهرجان الفيلم العربي في برلين هو الفعالية العربية الوحيدة السنوية في المدينة التي استمرت بنفس الوتيرة، وتحسنت وتطورت، كعمل مؤسساتي، وكالمهرجان نفسه وتفاعل الجمهور معه، وسمعته في العالم العربي كمهرجان مميز من حيث المضمون والشكل”.
وأضاف: “تزداد أهمية هذا المهرجان الآن، في وقت يخشى فيه الكثيرون/ات من تقديم محتوى فلسطيني أو أحيانًا عربي ومسلم. هناك هيبة وخوف من المشاكل التي قد تواجههم/ن أو عدم تفاعل الجمهور معها، فالعديد من الفعاليات التي ألغيت خلال الأشهر الستة الأخيرة لم تكن جميعها فلسطينية، ولا جميعها تنتقد إسرائيل، ولكنها ألغيت لكونها عربية و/أو مرتبطة بالإسلام و/أو البلدان الإسلامية”.
يعمل في المهرجان طاقم صغير الحجم مؤمن برسالته ودوره في المشهد الثقافي العربي البرليني والألماني، ويسعى الطاقم لإيصال هذه الرسالة والتواصل مع جمهوره في برلين والمدن المجاورة بالإضافة إلى خلق جمهور جديد ممن يودون التعرف على العالم العربي عن قرب واستكشاف قضاياه ومشكلاته.
هوية المهرجان
“استطاع المهرجان أن يأخذ موقعه بين بقية المهرجانات في أوروبا والمنطقة العربية، لما يقدمه من سينما تمثل وجهة نظر المجتمعات العربية إلى جانب الأقليات والثقافات المتنوعة” كما قالت فخري.
يركّز المهرجان على ابراز صور متنوعة للمنطقة العربية بما فيها التنوع الثقافي، والديني، والسياسي، والجندري، وقد استطاع أن يقوم بذلك خلال الخمسة عشر عامًا، مستندًا إلى خبرات أشخاص قادمين/ات من رحم السينما العربية وخبراء/ خبيرات فيها.
تقول فخري: “يسعى المهرجان من خلال مجموعة نشطاء/ ناشطات ثقافيين/ات وسينمائين/ات للاستجابة للفقر في تمثيل المحتوى السينمائي العربي في برلين أو تمثيله بصورة سيئة لا تمثل الواقع، وغياب النقاش حوله والفرص والتحديات التي يحتاجها ويواجهها”.
تطور المهرجان عبر السنوات الماضية، واستطاع استقطاب جيل جديد من المهاجرين/ات الذين/ اللواتي وجدن أنفسهم/ن في مبادئ المهرجان وما يدعو إليه وأصبح يمثلهم/ن، كما أوضحت مديرة المهرجان، “كما إن هناك علاقة خاصة تطورت بين المهرجان والمخرجين/ات المهاجرين/ات الذين/ اللواتي يعيشون في الخارج وفي برلين بشكل خاص، فأصبح المهرجان منصة لعرض أعمالهم/ن واستضافتهم/ن في نقاشات وورش عمل ضمن تخصصاتهم/ن”.
وتصّر فخري على أن المهرجان، الذي يتخذ هذا العام من ست قاعات سينما مكانًا لعرض أفلامه الخمسين، “قدم صورة مختلفة عن تلك التي يقدمها الإعلام الألماني والأوروبي بشكل عام عن العرب، كما أن المهرجان أساسي للجمهور غير العربي، للأسباب ذاتها، لوجود رواية مختلفة ومعقدة وتتناول موضوعات مختلفة عن العالم العربي، كما إنه يفتح المجال للنقاش عن هذه الموضوعات مع صناع/ صانعات السينما ومخرجي/ات الأفلام، وهو مهم لصناعة السينما بحيث يُناقش تطورها وتناولها للموضوعات القريبة من واقع المجتمعات، بالإضافة للحديث عن التمويل والإنتاج داخل وخارج الوطن العربي”.
مهرجان الفيلم العربي برلين هو مهرجان جماهيري يستهدفهم/ن ويسعى لإيصال رسالته من خلالهم/ن، وليس مهرجانًا يقدم الجوائز وليس لديه لجان تحكيم، بل يسعى لتقديم صورة العرب والمنطقة من منظور العرب والمنطقة ذاتها.
نظرة عامة على البرنامج
في قسم اختيارات الأفلام، رُكّز على تنوع المشهد المعاصر للسينما العربية في إنتاجات الأفلام من العامين الماضيين في قسم خاص بعنوان “برسونا نون غراتا” أو “منبوذون ومنبوذات”، الذي يركز على تمثيل الأفراد المهمشين والمضطهدين لأسباب متعددة، منها الاجتماعية والاقتصادية العرقية والجندرية التي تغذي الوصمة والتهميش من ناحية، وتتميز من ناحية أخرى بالمحاولات الفردية للمقاومة، والتنقل عبر الحدود وعبر الروايات الشخصية.
تستضيف نسخة هذا العام من المهرجان العديد من الدروس المتخصصة وحلقات النقاش والمحادثات السينمائية، والتي ستختتم بحفل ختامي بعروض سمعية وبصرية حية لفنانين/ات عرب وفلسطينيين/ات، يُنظّم بالتعاون مع المجموعة الثقافية “آل.برلين”، يوم الثلاثاء 30 أبريل/ نيسان في جريتشن.
كما يتضمن المهرجان أفلامًا من السودان، كفيلم “وداعًا جوليا” من إخراج محمد كردفاني، الذي يحكي قصة سيدة من شمال السودان تتسبب عن غير قصد في وفاة رجل من جنوب السودان. بدافع من شعور عميق بالندم، تحاول التعويض عن أفعالها من خلال توفير اللجوء لجوليا، أرملة الضحية، وابنها، وتمنحها وظيفة الخادمة المنزلية في منزلها، فتبدأ ديناميكية غير تقليدية في الظهور.
فيما يحكي الفيلم الوثائقي “الحياة حلوة” قصة المخرج محمد جبالي، الذي شارك في مهرجان سينمائي في ترومسو بالنرويج في ٢٠٠٤، في الوقت الذي اندلعت فيه حرب في بلده، فلسطين، وتحديدًا، غزة، فعاش مخاوف عذبته وقلبت حياته إلى جحيم على عائلته ومخاوف من طرده من قبل الحكومة النرويجية التي تعتبره عديم الجنسية، وتضمن معه زملاؤه/ زميلاته وأصدقاؤه/ صديقاته وجمهوره والعاملين/ العاملات في القطاع السينمائي النرويجي مصممين/ات على دعم سعيه لتحقيق العدالة.