كانت الأرض المرصوفة غير مستوية، شقّت الجذور في أماكنٍ طريقها نحو الأعلى، فبرز بعضُ بلاط الأرصفة، والتفّ الطحلب حول الأطراف، يعانق الحجر. بعدها يأتِ شارع بلا سيارات، أعمدة لصفّ الدراجات، قليل منها، سلّم، و درابزين معدني. ثمّ واجهة حجرية بنيّة أطلَقت من صدر آراس تنهيدة ثقيلة. لقد كره هذا المبنى بشدة، وكرهت عيناه هذا المشهد، هذه الواجهة الحجرية الفظّة. وامتدت كراهيته لكل ما هو حوله، حتى قليلاً لنفسه. لم يكن آراس وحيدأً في ذلك، ولربما حتى في هذا الكره.
أفسحت الحجارة المرصوفة إلى جانبه الطريقَ لوالدته ومعلمته السابقة في اللغة الألمانية. “شكراً لانضمامك إلينا. هذا يعني لنا الكثير!” قال آراس للسيدة هوفمان، ممتنًا ومومئاً برأسه.
كانت السيدة هوفمان امرأة طويلة القامة، قصيرة الشعر الأجعد الرمادي. كانت منتفخةَ الجفون. إذ أصبحت الليالي أقصر مع تقدم العمر. كان وجهها طويل ومجعد وكانت لديها وقفة مائلة بعض الشيء، ليس بسبب الإنهاك أو عناء العمل المدرسي والضغوط المرتبطة به. إنما كان معظم طلابها صغار القامة، يجلسون في مقاعدهم أمامها. وكانت قد اعتادت على ألا تتحدث إليهم من علو. كان آراس قد شكر السيدة هوفمان حينها ربما لمئات من المرات، بينما طلبت منه هي أن يناديها، دون تكلّف، بـإسمها الأول. لكن الوقت كان لايزال مبكراً، وكانت هي في مخيلة آراس لا تزال معلمة اللغة الألمانية، شخصاً يجب احترامه. “أنا أفعل ذلك بسرور!”، أكّدت السيدة هوفمان.
كانت والدته تقف بجانبها، تحمل ملفاً مليئاً بالأوراق. استدارت السيدة هوفمان إلى نادية: “لا أعرف ما إذا كان آراس قد أخبركِ، لكنني في الحقيقة قضيت عطلة مع عائلتي في حلب. مدينة رائعة للغاية، مدينة جميلة جداً.” مالت نادية برأسها وسألت: “هل زرتم القصر؟” – “القلعة”، صحّح آراس. “نعم، بالطبع سمعت أنها دُمرت” – “فقط الجهة الخلفية”، أجاب آراس. “فقط الجهة الخلفية”، أومأت نادية برأسها.
عندما كان آراس صبياً صغيراً، كان يتوه باستمرار في أروقة القلعة، باحثًا دائمًا عن مشهد جديد لاكتشافه. ذات مرة، كان برفقة أحد أقاربه، يبحثان عن التلة التي يُقال إن إبراهيم قد حلب فيها بقرة، وهو السبب الذي نالت بسببه المدينة التي عاشوا فيها اسم “حلب”، الشهباء، مثل الحليب الذي حلبه. كان الضياع في القلعة أشبه بطقس معتاد، حيث يتلاشى الزمن، ويظهر في كل مرة شيء جديد يستحق الاكتشاف. في إحدى المرات، مع قريب آخر، عثرا على قبر الابن الثالث لصلاح الدين. وفي مرة أخرى، تسلّقا إلى الزنزانات التي كانت تُستخدم سابقًا لتخزين الحمضيات. قادهم البحث في النهاية إلى قاعة العرش، واحدة من الغرفتين الوحيدتين اللتين بقيتا على حالتهما الأصلية، على الرغم من أن أحدًا لم يكن يعتقد بصحة ذلك. أما النقوش والهندسة المعمارية فقد كانت بالفعل بتصميمها الأول. كان آراس يجلس هناك محاولاً دائمًا عدّ المربعات والمثلثات المتداخلة، لكنه لم يصل يوماً إلى النهاية. كانت القلعة بالنسبة له متاهة شاسعة، ملعبًا مليئًا بالمغامرات. لم يكن آراس يضيع حقًا هناك، فقد اعتاد الزوار الآخرون رؤية أطفال مثله يتجولون دون ذويهم، وكان يتم إعادته في كل مرة إلى المدخل الرئيسي، حيث كان ينتظر مع الحراس. وأثناء الإنتظار، كان يتخيل المعارك التي استعصت فيها القلعة على السقوط، بفضل خندقها العميق، إلى أن تصل عائلته ويعود للانضمام إليهم. في ذلك الوقت، لم يدرك أحد أن القلعة ستتعرض لمزيد من الأضرار، وأن الدمار المتزايد للمدينة لن يكون سوى نبوءة زائفة لماضٍ كان فيه لقب “حلب الشهباء”، الذي كان يعني في السابق الرخام الأبيض المخلوط بالأسود، أما الآن فهو يعني الرماد والأنقاض.
كانت الأرض تمنح سطحها الثابت وغير المستوي للناس المتجمعين حولها. كانت الأنظار تتوجه إلى الساعات على المعاصم وإلى الهواتف المحمولة، نظرات قلقة تملأ المكان. كانت السجائر تجد طريقها إلى بعض الأفواه، بينما كان آخرون منهمكين في أحاديث جانبية مع رفقائهم. قلة فقط كانوا قد حضروا بمفردهم، وهؤلاء الذين جاؤوا وحدهم كانوا يلتفتون حولهم. أن تكون وحيدًا هنا يتطلب أعصابًا قوية، فكر آراس وابتسم لنفسه. سيتم إدخال نظام المواعيد لاحقًا، وسيتم تحويل كل شخص إلى قائمة انتظار مرتبة أبجدياً عبر هاتفه المحمول.
عندما فُتحت الأبواب، وإذ بها ابتلعت من كان يقف مباشرة أمامها. من دخل أولاً كان كالذي طُحن في مطاحن بطيئة الحركة. استقبل المدخل كلاً من السيدة هوفمان وآراس ونادية. كانوا يسيرون بخطى هادئة وغير مستعجلة، خالية من التردد، لكن بلا ثقة كبيرة. الأرضية كانت تعكس صدى خطواتهم، مكسوة بالبلاط، وفي مواجهتهم كان مكتب الاستقبال. إلى اليمين كان الطريق يؤدي إلى مكتب المواطنين، بينما اتجهوا هم إلى اليسار، صاعدين الدرج. كان السيليكون على درابزين الدرج باللون الأحمر وقد بدا مهترئاً. الباب الذي وقفوا أمامه الآن كان بلون أخضر نعناعي، بمقبض فضي خالٍ من الزخارف. تجمّع حول الباب خمسة أشخاص، دون ترتيب واضح. سجّل آراس الوجوه في ذاكرته، آملاً أن تتذكر هذه الوجوه بدورها وربما الباب كذلك وجهَه أيضاً، عندما يظهر الوجه السادس ليحدد من سيكون التالي.
آخر مرة غادر فيها آراس هذا المبنى كانت قبل أربع سنوات، وقد اعتقد حينها أنها ستكون المرة الأخيرة بالفعل. كان وداعاً سعيداً، رغم أنه لم يكن من السهل عليه تصديق ذلك. عندما بدأت أسماء الموتى تضاف، كل يوم جمعة، واحداً تلو الآخر إلى الأغاني. عندما انقطعت الكهرباء والمياه ووسائل الاتصال عن المدن، وازدادت الاعتقالات وبدأ الناس يختفون بشكل متزايد. حين قرر الديكتاتور، الذي وصف شعبه بأنه غير متعلم بما يكفي للإصلاحات، قمعَ الثورة تحت سماء محصنة بالرصاص، رافعاً شعار “الأسد أو نحرق البلد”. كانت الجدران تردد: “الأسد إلى الأبد”، تكراراً ومراراً. وعندما اتحد الجنود الذين رفضوا إطلاق النار على إخوتهم وأخواتهم وأصدقائهم وجيرانهم وأقاربهم وشكلوا الجيش السوري الحر، كانت نادية تتنقل بين شاشة الكمبيوتر والشوارع، أمام السفارات والمباني البرلمانية أو البلدية، على أمل سماع رسالة واحدة تنهي كل شيء. في ذلك الوقت، أدرك آراس أنه لن يطول الأمر قبل أن يستعيد هذا المبنى نظرته إليه. والآن، بعد عامين، حدث ذلك بالفعل؛ فالوداعات ليست أبداً للأبد.
بينما كان الاتحاد الأوروبي في مثل هذا اليوم يناقش مسألة تزويد الثوار السوريين بالأسلحة، وكانت ألمانيا ترى أن هذه الخطوة ليست بفكرة جيدة لأنها ستدفع الطرف الآخر إلى تعزيز تسلحه أيضاً، كان الدرابزين المقابل للباب الأخضر النعناعي يمنح آراس بعض الدعم. أما البلاط تحت قدميه، فقد أثار قلقه. فقد جذب انتباهه بتشققه وتمزقه في بعض الأماكن، وكأنه شهد مقاومة عنيفة، كما لو أن شخصاً ما حاول تدمير هذا المكان بقدميه مراراً، محاولات يائسة. هل كانت هذه الشقوق علامة على اتفاق ضمني بين الشرطة والأرض، حيث تقدم الشرطة وجوهاً مختلفة، بينما تمارس الأرض صرامة السلطة؟ امتلأ مجال رؤية آراس باللون الأحمر.
إلى جانبه، كانت نادية والسيدة هوفمان تتحدثان. “هل يمكنك من فضلك الترجمة؟”، طلبت والدته منه. بدأ آراس بالترجمة: “رجل يقف أمام المحكمة، وقد حكم عليه القضاة الثلاثة بالإعدام.” “مُنح الرجل أمنية أخيرة، كما هو المعتاد. معظم الناس يطلبون رؤية والدتهم مرة أخرى، أو الطعام، أو ما شابه. لكن الرجل اعتقد أنه ذكي، وطلب أن يتعلم اللغة الألمانية.” نادية كانت تستعد لإلقاء النكتة بابتسامة. “قال القاضي الأول: ‘لا، لا يمكننا تلبية هذه الأمنية.’ وافقه القاضي الثاني قائلاً: ‘سيستغرق ذلك وقتاً طويلاً للغاية. ولن يتم تنفيذ الحكم بهذه الطريقة أبداً.'” تذكر آراس أنه يعرف النكتة بالفعل، واستعد لرد فعل السيدة هوفمان. “قال القاضي الثالث: ‘ينبغي علينا تلبية أمنيته. سيكون هو من ينفذ حكم الإعدام بنفسه.'” شارك الناس الواقفون حولهم في الضحك، بينما ضحكت السيدة هوفمان وقالت: “سأروي هذه النكتة لطلابي، إنها رائعة”.
لقد كانت أياماً (العنوان الأصلي باللغة الألمانية، “Da waren Tage”) هي أول رواية للكاتبة لونا علي، كتبت ونشرت باللغة الألمانية بواسطة S. Fischer عام 2024.
يراقب آراس بطل الرواية، الثورة السورية من مسافة بعيدة. ولد آراس في حلب لكنه نشأ في ألمانيا، وكان في الفصل الدراسي الأول بكلية الحقوق في عام 2011 عندما بدأت الثورة. ومع تصاعد العنف في سوريا، يتغلغل الصراع بشكل متزايد في حياته في ألمانيا. من قاعات المحاضرات إلى مكاتب الهجرة، أثناء التدريب في الأردن، أو كضيف في برنامج حواري سياسي، يستعيد آراس ذكرى الثورة كل عام باعتبارها اندماجًا بين الواقع والخيال. وبالتالي، تتساءل رواية لقد كانت أياماً كيف تشكل الرغبة في الحرية – وقمع تلك الرغبة – حياة وأفعال ولغة بطل الرواية في الشتات.
المقتطف من الفصل الثالث. يتناول الفصل التأثير الأكثر مباشرة لقمع الثورة السورية على آراس: رغبة عائلته في الهروب من الحرب. تدور أحداث الفصل في 15 مارس 2013، في مكتب الأجانب (Ausländerbehörde)، حيث يحاول آراس ووالدته نادية و السيدة هوفمان، معلمة الألماني السابقة، تقديم إعلان التزام لتأمين لم شمل الأسرة – الممر الآمن الوحيد بين سوريا وألمانيا في ذلك الوقت. لتحقيق هذه الغاية، يعتمدون على السيدة هوفمان، التي يؤهلها دخلها لتقديم ضمان (Bürgschaft). يستكشف الفصل البيروقراطية اللاإنسانية لمكتب الأجانب، والتي تقلل من شأن الأفراد وتحولهم الى خاضعين بينما تفكك أيضًا شبكة معقدة من السياسة، و(ما بعد) الاستعمار، والقرابة، مما يعزز في نهاية المطاف التضامن.
كُتب هذا النص قبل فبراير 2025.
النص جزء من ملف “أبدٌ يتفكك“، من تنسيق فيرونيكا فيريري وإنانا عثمان.
الملف ثمرة تعاون بين “Archivwar” و”Untoldmag” و”Arabpop“
التنسيق البصري: غريغ أولا
حصل هذا المشروع على تمويل من برنامج الاتحاد الأوروبي “هورايزون أوروبا” للبحوث والابتكار، في إطار اتفاقية منحة “ماري سكلودوفسكا-كوري” رقم 101064513 تحت عنوان:
“ARCHIVWAR – الأرشيف في زمن الحرب: عائلات متفرقة وماضٍ يتلاشى في سوريا المعاصرة”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي.
الآراء والمواقف المعبر عنها في هذا المشروع تعود حصريًا للمؤلفين ولا تعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي أو الوكالة الأوروبية التنفيذية. ولا يتحمل الاتحاد الأوروبي ولا الجهة المانحة أي مسؤولية عنها.