يُمضي البرازيليّ لوان دا سيلفا، 33 عاماً، أيام الإثنين بعيداً عن الإنترنت. يستيقظ، يتناول الإفطار، يغسل شعره، يذهب إلى نادي الرياضة، يُنظّم جدول الفيديوهات للأسبوع وفقاً للعقود، يجلس في الفناء، ويكتب أفكاراً جديدة.
من يوم الثلاثاء فصاعداً، يقوم بالتحضير، يُجهّز المعدّات، يُسجّل الفيديوهات، يقوم بتعديلها وتوزيعها، يراقب ردّود الفعل عليها، ويستجيب للتعليقات وتفاعل متابعيه. بين هذه المهام، يُتابع الاتجاهات العالميّة ليُنتج محتوى باستمرار ويٌلبّي متطلّبات المنصّات.
يقول: “أطلق على نفسي اسم فنّان متعدّد لكي أفتح أمامي احتمالات أكثر، ولكن منذ 4 سنوات، أعمل على الإنترنت كمؤثّر رقميّ (إنفلونسر)”.
يُعرف لوان في بيلو هوريزونتي، عاصمة ولاية ميناس جيرايس في جنوب شرق البلاد، باسم @alomarilu، يُقدّم نصائح حول السفر والجمال والأزياء، بالإضافة إلى تأمّلات حول الحياة ووصفات طعام ويُشارك روتين حيواناته الأليفة اليوميّ. في الواقع، إنّه يعمل على المنصات الرقميّة ولصالحها، خاصّة إنستغرام، الذي يُسميّه “برنامجي الواقعيّ الصغير”.
المؤثّرون الرقميّون مثله هم جزء من سياق أوسع يُسمّيه الباحثون “الاعتماد على المنصّات في العمل (Platformization)”. تؤثّر هذه الظاهرة العالميّة على مختلف قطّاعات الاقتصاد الرقميّ، من خلال إدخال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في علاقات العمل، ممّا يُسيطر على تقديم الخدمات ويولّدها.
تشرح نينا ديغرنجس، عالمة اجتماع برازيليّة وباحثة في معهد التكنولوجيا والمجتمع (ITS): “تُلاحظ هذه الديناميكيّة في قطّاعات مختلفة، مثل خدمات التوصيل وتطبيقات سيّارات الأجرة”، وتُضيف: “يُمكن تصنيف صانعي المحتوى الذين يحقّقون أو يأملون في تحقيق دخل من خلال منصّات مثل يوتيوب وإنستغرام وتيك توك وتويتش كعمّال منصّات، وبشكل أكثر تحديداً، كعمّال ثقافيّين في اقتصاد المنصّات”.
لكلّ عمل على المنصّات الرقميّة طبيعة متشابهة في تناقضاتها، بما في ذلك عمل المؤثّرين: من ناحية، هناك وعد بالمرونة والاستقلاليّة؛ ومن ناحية أخرى، تنحرف ظروف العمل عن علاقات العمل الرسميّة، حيث تُنقل أيّ مخاطر إلى العمّال. تُثير هذه الطبيعة قضايا مهمّة تتعلّق بحقوق العمّال وتنظيم هذه المنصّات والعمل الذي تُتيحه.
رغم التصوّر الشائع بأنّ المؤثّرين يتلقون أجراً لقاء شيء سهل ومربح وممتع، إلّا أنّ روتين عملهم غالباً ما يكون متسماً بعدم اليقين، والأجور غير المنتظمة، وتخبّط عدد المتابعين، وصحّة نفسية مُهدّدة.
توضّح فلافيا بينهو، مؤثّرة أخرى مقيمة في بيلو هوريزونتي، أنّ “إنشاء المحتوى الرقميّ هو عمل متكامل ومُعقّد للغاية”.
دخلتْ فلافيا عالم إنشاء المحتوى الرقميّ في عام 2015 للترويج لعملها في المكياج: “بدأتُ بصور لعملائي، ولكن مع عدم وجود طلب انتهى بي الأمر إلى وضع الكثير من المكياج. أدركتُ أنّ هذا النوع من المحتوى كان يجلب لي مزيداً من التفاعل وبدأتُ أستكشف هذا الجانب”.
بالنسبة لها، “التحدّي الأكبر هو خلق علاقة مع الجمهور لتُصبح مؤثراً وتحقيق عوائد ماديّة ملموسة. هذا يتطلّب وقتاً وتفانياً”.
تُضيف: “يبدو الأمر بسيطاً، لكنّه يتضمّن العديد من الخطوات، وفي الغالب، نحتاج إلى إتقان العديد من المجالات، مثل التصوير والتحرير وكتابة النصوص واستقطاب العملاء، بالإضافة إلى الكاريزما التي يجب أن تظهر بلا شك”.
إنّ نجاحها على المنصّات الرقميّة، مع أكثر من 160,000 متابع على حسابها على إنستغرام @__flaviapinho – سمح لها بفتح صالون تجميل خاص بها يُسمّى “Glow” في عام 2020. تقول: “أُخصّص حاليّاً الكثير من وقتي وطاقتي لـ Glow نظراً للتحديات التي تواجه أيّ شركة جديدة في السوق، ولكن هدفي هو العودة بمحتواي بطريقة أكثر احترافيّة”.
تتصدّر البرازيل قائمة الدول التي تضم مؤثّرين على إنستغرام، مع أكثر من 10.5 مليون مستخدم، وفقاً للدراسات السنويّة التي أجرتها شركة نيلسن. وعلى تيك توك ويوتيوب، تحتلّ البرازيل المرتبة الثانية، تسبقها الولايات المتحدة فقط.
نظراً للعدد الكبير من المؤثّرين، فإنّ ظروف العمل تحتاج إلى اعتبار دقيق: يعمل أكثر من 68% من المؤثّرين الرقميّين في البرازيل بمفردهم، بدون فريق؛ 53% يقبلون إنشاء محتوى مقابل هدايا أو منتجات؛ 52% عملوا بين عمل واحد إلى 12 عمل بدون عقد في العام الماضي؛ 71% يحصلون على عمل واحد أو اثنين في الشهر؛ و70% قبلوا عملاً بمقابل أقلّ بكثير ممّا طلبوا. جاءتْ هذه الأرقام من دراسة “المبدعين والأعمال”، وهي شراكة بين شركتيّ “برانش” و”يوبيكس”.
“إنّه عمل بدون أجر، يُنجز على أمل أن تنجح في تحقيق حلمك. في هذه الحالة، تعمل متخيّلاً أنّه يوماً ما ستكون مؤثّراً تعيش بالكامل من دخل هذا العمل، وإلى أن تصل تلك اللحظة، ستعمل مجاناً لصالح المنصّات”، تشرح إيساف كارهواي، أستاذة في جامعة باوليستا حاصلة على دكتوراه في علوم الاتصال من كليّة الاتصال والفنون في جامعة ساو باولو.
نظراً لهذه الديناميكيّات، يتمّ إنشاء العمل المعتمد على المنصّات بدون ضوابط أخلاقيّة وتنظيميّة في واحدة من أكثر الدول إنتاجاً للمحتوى وتأثيراً على الجمهور في العالم. بينما تمتلك بعض الدول تجارب أوليّة في التنظيم، بدأتْ البرازيل في مناقشة حلولها.
تتمحور المناقشات حول الحلول وتنظيم العمل على المنصّات غالباً حول سائقي التوصيل وسائقي التطبيقات، لكن وفقاً للخبراء، يجب أن يُدرج المؤثّرون أيضاً في هذه النقاش الطويل.
يعتبر لوان أنّ هناك آثاراً إيجابيّة للتنظيم والنقاش الذي يُثيره. يقول: “نحن نُناقش ما هو العمل وما سيُصبح عليه، بالنظر إلى الذكاء الاصطناعيّ، على سبيل المثال… أعتقد أنّه من المهم تنظيم العمل بسبب تشبّع السوق والحاجة إلى الأمان المستقبليّ، حتّى عند التفكير في التقاعد”.
بالنسبة لفلافيا، فإنّ النقاش حول تنظيم المنصّات مهمّ جدّاً، لكن يجب أن يكون هناك توازن: “أتخيّل أنّ التنظيم يُمكن أن يُساعد في ضمان بعض الفوائد، ويجلب مزيداً من الشفافيّة والحماية الماليّة، ولكن من المهم ألّا تخنق هذه القواعد الحريّة الإبداعيّة أو تجعل الأمور مفرطة البيروقراطيّة. سيكون ذلك صعباً جدّاً، خاصّة بالنسبة لصانعي المحتوى الصغار”.
يُمكن أن يؤدّي الاعتراف بإنشاء المحتوى كمهنة وتنظيمها إلى إضفاء الشرعيّة على العمل وفتح الأبواب أمام الحماية والحقوق الأساسيّة، ممّا يؤدّي إلى تطوير قواعد أخلاقيّة تنطبق على هذه الفئة، وكلّ ذلك لمنع التدهور الصامت لعمل المؤثّرين.
بالنسبة لإيساف كارهواي، يجب أن تبدأ المطالب بالشفافيّة. تشرح: “هناك العديد من المناقشات حول تحقيق الدخل، بالطبع، لكن… الشيء الأساسيّ هو الشفافيّة في العلاقة مع المنصّات، لأنّ المؤثّرين يشتكون من عدم فهمهم الكامل لكيفيّة عملها”.
غالباً ما لا تكشف المنصّات عن كيفيّة عمل الخوارزميّات، ممّا يؤثّر على رؤية محتوى المؤثّرين دون علمهم. علاوة على ذلك، تُجمع كميّات هائلة من البيانات عن المؤثّرين ومتابعيهم، لكنّها لا توضّح دائماً كيفيّة استخدام هذه البيانات أو مشاركتها.
تُسلّط نينا ديغرنجس، الباحثة في معهد التكنولوجيا والمجتمع في ريو دي جانيرو، الضوء على نقطة أخرى من قائمة مطالب صانعي المحتوى بشأن التنظيم، وهي “سياسات تحمي الملكيّة الفكريّة للمؤثّرين وتوفّر آليّات لحلّ النزاعات التعاقديّة”.
في البرازيل، حيث هناك وجود راسخ لثقافة النقابات، يجب أن يُعتبر العمل الجماعيّ أيضاً موضوعاً مهمّاً في تعزيز اقتصاد المبدعين. “يمكن أن يكون التعاون بين المؤثّرين والنقابات ومنظّمات المجتمع المدنيّ والمشرّعين أمراً حاسماً لتطوير سياسات فعّالة تحمي حقوق واهتمامات العمّال الرقميّين”، كما أكّدتْ ديغرنجس.
يحتاج القانون البرازيليّ إلى التطوّر بالتوازي مع التحوّل الرقميّ. بدأتْ عمليّة مشروع القانون 2630/2020 في عام 2020، عندما تمّ تقديمه ومناقشته في الكونغرس البرازيليّ.
يقترح مشروع القانون “قانون حريّة الإنترنت، والمسؤوليّة، والشفافيّة البرازيليّة” تنظيم المنصّات الرقميّة مثل جوجل، وميتا (إنستغرام وفيسبوك)، وX (تويتر سابقاً)، وتيك توك، بالإضافة إلى خدمات الرسائل الفوريّة مثل واتساب وتيليجرام. لقد أثارتْ الاقتراحات عدم استقرار سياسيّ كبير وحركات ضغط عامّة بين شركات التكنولوجيا الكبرى.
لا يقتصر مشروع القانون على المبدعين؛ بل هو أوسع ويُركّز بشكل أساسيّ على السيطرة على انتشار المعلومات الخاطئة وخطاب الكراهيّة عبر الإنترنت. الفكرة هي محاسبة المنصّات بحيث يُمكن تحديد أو إزالة أو الإبلاغ عن الحسابات أو المنشورات التي تحتوي على محتوى إجراميّ بشكل أكثر سهولة.
أحد الاقتراحات الرئيسيّة هو تحميل الشركات مسؤوليّة المحتوى المنشور من قبل أطراف ثالثة. حاليّاً، لا يوجد قانون برازيليّ يسمح بمعاقبتهم في حال وجود محتوى مسيء أو إجراميّ على منصّاتهم.
على الرغم من عدم تركيز مشروع القانون على المبدعين، إلّا أّنه يدعم النقاش العام وبيئة مليئة بالأفكار الجديدة. ولكن على الرغم من أنّه طُرح للدراسة بشكل عاجل، فقد تعطّل مشروع القانون في الكونغرس البرازيليّ لمدّة عام.
لتحقيق تقدّم في النقاش العام، يُمكن للمشرّعين والمجتمع استخدام المشاورات العامّة كأداة حيويّة لفهم احتياجات محترفي إنتاج المحتوى على المنصّات.
يُعتبر التعاون بين المشرّعين ومجتمع المبدعين مفتاحاً لتنظيم فعّال وقابل للتكيّف، والذي، عند القيام به بشكل جماعيّ وباهتمام كافٍ، يُمكن أن يُعزّز نظاماً بيئيّاً إبداعيّاً وصحيّاً ومزدهراً.
“أؤمن أن هذه المهنة قادرة على تغيير حياتنا. لكن بجانب المتخصّصين، يجب أن تُسمع أصواتنا، وخاصّة جيل Z، وأن نُشارك بفعاليّة في هذا النقاش”، يقول لوان أثناء إنتاجه لـ “برنامجه الواقعيّ الصغير” على إنستغرام.