وسط تحديات النمو في العراق خلال تسعينيات القرن المنصرم، كانت وجبات الطعام في عائلتي عبارة عن واحات من الدفء والامتنان. لم نعتبر نعمة مشاركة الطعام مع الأحبّة أمراً مفروغاً منه. كان الطعام يُعامل باحترام؛ يتم تقاسم بقايا الطعام مع المحتاجين -ما زلت أتذكر الرجل المتشرد الذي كان يطرق بابنا بعد الظهر ويطلب منا طبقاً دافئاً- حتى عظام الأسماك والدجاج وجدت طريقها إلى الحيوانات الضالة. كانت النساء في عائلتنا يتجمعن حول الحوض بعد تناول الوجبات، ويغسلن الأطباق أثناء سرد الحكايات. كنا نشرب الماء، وهو مورد ثمين، مباشرة من الصنبور أو، في بعض الأحيان، من خلال مرشح (فلتر) بسيط. كان انقطاع التيار الكهربائي أمراً شائعاً، فتعلمنا الاستمتاع بلعب الورق (الكوتشينة) على ضوء الشموع في المساء. كان الحفاظ على الموارد الطبيعة أمراً أساسياً بالنسبة لنا. كان شيئاً متأصلاً في عاداتنا اليومية.
بما أن عائلتي تعيش الآن في الولايات المتحدة، فلا يسعني إلا أن أشعر بخيبة الأمل عندما أشهد تآكل تلك العادات التي كانت عزيزة عليّ في الماضي. في حين أن الأمن والسلام في بيت عائلتي الجديد لا يقدران بثمن، فإنني أجد صعوبة في تقبل غياب بعض ممارسات الماضي المستدامة واستيدالها بعادات روتينية جديدة أقل صداقة للبيئة. قد ينتهي الطبخ وتناول الوجبات بالتخلص من بقايا الطعام عن طريق رميها في النفايات، كذلك أصبحت الأطباق والأكواب ذات الاستخدام للمرة الواحدة شائعة، كما حلت المياه المعبأة في عبوات بلاستيكية محل بساطة مياه الصنبور، والطنين المستمر لمكيّف الهواء يتناقض بشكل صارخ مع الاستخدام الدقيق للطاقة في ماضينا.
على الرغم من أنني ممتنة للغاية للغياب اليومي للقنابل، إلا أنني أتساءل عما إذا كنا قد فقدنا، خلال هذا الانتقال، التواصل مع شيء قيّم وعميق.
وجهات نظر علم النفس البيئي
لقد ساهمت هذه الأفكار في توجيهي لبناء مهنة بحثية أكاديمية في مجال تقاطع الاستدامة البيئية وعلم النفس السلوكي والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. من المثير للسخرية أنّ عملي يعرضني باستمرار للحقائق المقلقة الناتجة عن الكوارث البيئية التي تلوح في الأفق، مما يجعلني أسعى جاهدة لمشاركة نتائجي وكتاباتي مع أحبائي، لكن هذه المعرفة والمشاركة لم تترجم بالضرورة إلى عادات أكثر استدامة في محيطي. بينما يظل أسلافنا، الذين غالباً ما كان يُنظر إليهم على أنهم “جاهلون” أو “غير متحضرين” من قبل المستعمرين والقوى الغربية، مثالاً نموذجياً للعيش في وئام مع الطبيعة. لقد دفعني هذا الإدراك إلى التعمق أكثر في العوامل النفسية التي تساهم في فجوة المعرفة والسلوك في العمل المرتبط بالبيئة. رغم أن القوى المؤسسية والسياسية تشكّل العناصر الرئيسية للنتائج البيئية، إلا أنّه يتعين علينا أيضاً أن نفحص آليات العمل الداخلية لعقولنا التي تشكل أفعالنا وسلوكياتنا إلى ما هو أبعد من ذلك. يشكل كشف هذه التعقيدات خطوة حاسمة نحو سد الفجوة بين المعرفة البيئية واخاذ الإجراءات اللازمة، والانتقال من الوعي السلبي إلى التأثير النشط. إذن من أين تأتي هذه الفجوة؟ فيما يلي بعض الإجابات التي وجدتها بناءً على بحثي الخاص في مجالات علم النفس السلوكي والاجتماعي:
- البحث عن الأمان
العديد من التهديدات الوجودية التي تواجه الطبيعة اليوم نشأت بشكل تدريجي على مدى طويل، وهي تتطلب تفكيراً استراتيجياً عوضاً عن ردود الفعل الفورية.
في حين أن التفكير العقلاني والتصرفات المبنية على البيانات أمران حاسمان لنجاح الإنسان بالمقارنة مع جميع الكائنات الحية الأخرى، فإن أدمغتنا غالباً ما تكون مجهزة لاستجابات عاطفية سريعة للكر والفر للقتال أو الهروب، لأنّ هذه الاستجابات ساعدتنا (تاريخياً) على النجاة من التهديدات المباشرة، مثل الهروب من الحيوانات المفترسة. إن التعرض للصدمات، مثل الصراع أو النزوح، يمكن أن يعزز مثل هذه الاستجابات العاطفية ويحد من قدرة الدماغ على اتخاذ القرارات التأملية والمستهلكة للطاقة. بالإضافة إلى ذلك، قد يُنظر إلى التغيير على أنّه مجازفة كبيرة وقد تؤدي الصدمة إلى النفور من المخاطرة على المدى الطويل. وهذا بدوره يمكن أن يجعل تغيير السلوك أمراً صعباً للغاية، خاصة بالنسبة لأولئك الذين مروا بالفعل بتغييرات كبيرة في حياتهم. يمكن أن يقف الشعور الشديد بعدم الأمان أيضاً في طريق تنمية التعاطف وسلوك الرعاية تجاه الكائنات الحية التي قد لا يتماهى لا-وعينا معها (مثل الحيوانات أو الأشجار أو الغرباء بشكل عام).
- بِركة القلق المحدودة
عندما يزداد الاهتمام بأحد المخاطر، يتضاءل التركيز على المخاطر الأخرى في كثير من الأحيان، كما لو أن البشر لديهم قدرة محدودة على القلق ضمن نطاق زمني محدّد. على سبيل المثال، عندما يكون العقل مهتماً في المقام الأول بقضية مثل الصراع أو الفقر أو الظلم، فإنّه سيركز تلقائياً بشكل أقل على قضايا مثل البيئة أو تغير المناخ.
- تجاهل الأغلبية
كثير من الأشخاص الذين يعتبرون حماية البيئة أمراً مهماً بالنسبة لهم لا يدركون مدى مشاركة الآخرين لهم في الرأي. ونتيجة لذلك، فإنهم يقللون من تقدير عدد الأشخاص الآخرين المستعدين للتصرف بطريقة صديقة للبيئة. وسوء التقدير هذا هو ظاهرة نفسية تعرف بين الباحثين/ات باسم الجهل التعددي. هذا الفهم الخاطئ يمكن أن يخلق حلقة من الصمت، حيث يتردد الناس في التعبير عن معتقداتهم، معتقدين أنّهم أقلية. هذا النقص في المناقشة يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الدافع للعمل. بالإضافة إلى ذلك، فإنّنا غالباً ما نبني تصرفاتنا بناء على سلوك الآخرين، خاصة عندما تكون الفوائد جماعية وليست فردية. لا أحد يريد أن يكون الوحيد الذي يساهم دون أن يرى جهود الآخرين، لأن ذلك قد يؤدي إلى الشعور بالسذاجة أو الحماقة. يمكن أن يؤدي هذا الخوف إلى تقليد سلوك الآخرين لتجنب الرفض الاجتماعي، خاصة بعد أن يتم استثمار جهد كبير في الاندماج في مجتمع جديد.
- الأعراف الاجتماعية
غالبًا ما تعطي الثقافات الجماعية الأولوية للتوقعات والتقاليد المجتمعية، مما قد يجعل من الصعب على الأفراد تبني ممارسات تحيد عن القاعدة. داخل العائلات، يمكن أن تكون هذه الضغوط قوية بشكل كبير، مما يسبب الخوف من الرفض أو من خيبة الأمل. على سبيل المثال، قد يواجه الأفراد الذين يرغبون في اتباع نظام غذائي نباتي في العائلات التي تأكل اللحوم مقاومة وتشكيكاً. وبالمثل، فإن أولئك الذين يختارون أسلوب حياة منخفض النفايات، مثل شراء الملابس المستعملة، قد يشعرون بالتضارب بين معتقداتهم والرغبة في تجنب إزعاج الأسرة عندما تتمحور معاييرهم حول معايير الموضة الراقية. يمكن حل هذا التنافر المعرفي من خلال التنازل والتصرف بتوافق مع المعايير التي تتعارض مع معتقدات الفرد، فقط للتخفيف من الشعور بالذنب والحصول على التقبّل، خاصة عندما يشعر الأفراد أن أحبائهم قد مروا مسبقاً بأوقات عصيبة ولا يريدون التسبب في ضغوط إضافية.
- التجنب والإنكار الدفاعي
بعد مرور وقت طويل من مواجهة التهديدات والأزمات، فإن تحقيق الشعور بالأمان أخيراً يمكن أن يؤدي إلى النفور من الروايات الجديدة عن الكوارث والخطر، خاصة إذا بدت بعيدة أو مجردة. يمكن أن يكون هذا الاتجاه قوياً بشكل خاص عندما تثير هذه الروايات، مثل التحذيرات بشأن الأزمات البيئية، مشاعر اليأس أو تدني تقدير الذات، مما يعزز الرغبة في الانفصال عن الموضوع والتركيز على الحفاظ على السلام والاستقرار الشخصي. قد يكون هذا السلوك المتجنب بمثابة آلية للحماية الذاتية تسمح للأفراد بالحفاظ على سلامتهم العقلية من خلال الحد من تفاعلهم مع المعلومات التي قد تكون مزعجة.
لماذا النوع الاجتماعي مهم؟
في المجتمعات العربية، من بين مجتمعات أخرى، يُنظر إلى المرأة على أنها مصدر الأمان والراحة لأسرتها. باعتبارهن مقدمات للرعاية، فإن النساء مهيئات اجتماعياً للقلق بشأن أطفالهن وأحبائهن، مما يقلل من أولوية أي شيء آخر قد يحدث في العالم. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يواجهن ضغوطاً أبوية (بطريركية) للتوافق مع المعايير الاجتماعية وحرية محدودة في استكشاف الموضوعات الدنيوية والانخراط فيها مقارنة بالرجال. قد يؤدي هذا إلى حلقة مفرغة من تدني تقدير الذات وعدم التمكين. بالإضافة إلى ذلك، قد يرتبط الجهل التعددي بالنوع الاجتماعي، حيث يتم في كثير من الأحيان استبعاد النساء من مناصب صنع القرار. قد يقود هذا إلى الاعتقاد بأن أفكارهن أو اهتماماتهن لا يتم تقييمها أو سماعها، وبالتالي تتوافق مع المنظور المهيمن (الذكوري) فيقلّلن من عدد الآخرين الذين يشاركونهم أفكارهن بالفعل.
على الرغم من التحديات التي تواجهها المرأة في المجتمعات العربية، فإنها تلعب دوراً حاسماً في دفع عجلة الاستدامة. توفر لهن أدوارهن التقليدية كمدرسات وطَوَاهٍ ومتسوقات فرصاً فريدة للتثقيف وزيادة الوعي حول القضايا البيئية، وإعداد وجبات مستدامة، واتخاذ قرارات شراء صديقة للبيئة. علاوة على ذلك، فإن المفاهيم التقليدية حول الذكورة قد تثني الرجال عن الانخراط في الأنشطة “الأنثوية” مثل البستنة أو إعادة التدوير، في حين أن مشاركة النساء في أنشطة مثل الزراعة تمنحهن فهماً أعمق للنظم البيئية المحلية والتحديات البيئية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي ارتباط النساء بالعاطفة إلى تقليل الوصمات الاجتماعية حول طلب الدعم في مجال الصحة العقلية، مما يسمح لهن بتعزيز صحتهن النفسية وتطوير القدرة العقلية على التكيف مع السلوكيات الجديدة خارج مناطق راحتهن.
سدّ الفجوة
في حين تشكل الإصلاحات الشاملة وتدابير السياسات والإبداعات التكنولوجية والتعليم البيئي عناصر حاسمة لتعزيز العمل البيئي، فإنّ التغيير الحقيقي لا يمكن إنجازه دون أن يتبنى الأفراد ممارسات أكثر استدامة، وهو ما يستلزم مزيجاً من الاستراتيجيات من القمة إلى القاعدة، ومن القاعدة إلى القمة. يعتمد التغيير السلوكي بشكل كبير على السرد وأساليب سرد القصص. حيث يُعد التواصل الفعال أمراً بالغ الأهمية لتغيير سلوكيات الناس ولتعزيز المشاركة البيئية. إن القصص والحقائق التي تثير الاستجابات العاطفية وتتوافق مع الأعراف الاجتماعية هي أكثر تأثيراً من الإحصائيات البحتة التي تتطلب جهداً معرفياً مكثفاً.
بالإضافة إلى ذلك، قد يكون التركيز على إيصال بعض “المكاسب” في التحول إلى الاستدامة أمراً مؤثراً وفعالاً للغاية. على سبيل المثال، فإن التحول من خطاب “تغير المناخ سوف يدمرنا جميعاً” إلى قصص نجاح الابتكارات البيئية، والمبادرات الشعبية الملهمة ونماذج القدوة، وخاصة النساء، قد يساعد في مكافحة مشاعر التجنب والعجز وتعزيز المشاركة البيئية. من خلال فهم ما يعرفه الآخرون، يمكن للأفراد أيضاً التغلّب على الجهل التعددي والاعتراف بأنهم ليسوا وحدهم في مخاوفهم، وهو ما قد يُترجم إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات الفعالة.
يعد الوصول إلى دعم الصحة العقلية، خاصة في حالات ما بعد الصدمة، ضرورياً أيضًا لتعزيز الاستقرار العاطفي والتعاطف، والذي بدوره قد يترجم إلى سلوك أكثر مراعاة للبيئة، فضلاً عن القدرة العقلية اللازمة لاتخاذ قرارات عقلانية وحسابية. وهذا الأمر ضروري الآن أكثر من أي وقت مضى نظراً للتغير السريع الذي نعيشه في العالم، وذلك بفضل الرقمنة وما يرتبط بها من حمولة زائدة من المعلومات، وسرعة الاتصال، وتغييرات نمط الحياة، مما يدفعنا أكثر فأكثر إلى مواقف ردّات الفعل واتخاذ القرارات المتسرعة. يؤدي تحسين الصحة النفسية والرفاهية إلى تعزيز التفكير والتوجه طويل المدى بما يتجاوز مجرد التركيز على الإشباع الفوري وحل المشكلات، مع تعزيز إيمان الفرد بذاته وثقته في ممارسة السلوكيات التي قد لا تتوافق مع الأنماط المجتمعية السائدة.
على الرغم من أن هذا ينطبق على جميع الأنواع الاجتماعية، إلا أن المبادرات التي تستهدف النساء قد تكون ضرورية بشكل خاص لتعزيز قدراتهن في المجتمعات التي يهيمن عليها الذكور. وأخيراً، يشكل تغيير الأعراف الاجتماعية عنصراً أساسياً في تعزيز الاستدامة البيئية، ولكن هذا يتطلب من الأفراد أخذ زمام المبادرة والقيادة بالقدوة. ويكتسي تمكين المرأة أهمية خاصة في هذا المسعى، حيث يمكن لوجهات نظرها وتجاربها الفريدة أن تحدث تغييراً ذا معنى.
فيما أفكر في رحلة الممارسات المتواضعة والمستدامة لتربيتي العراقية وصولاً إلى تعقيدات السلوك البيئي في سياقي الحالي، أتذكر العلاقة العميقة بين تجاربنا الماضية وأفعالنا الحالية. أدرك الآن أن السلوكيات الصديقة للبيئة التي اتبعتها عائلتي في العراق كانت بدافع التضامن والامتنان، وربما حتى الضرورة، وليس بسبب عقلية بيئية. إنها بمثابة تذكير مؤثر بالترابط بين الحفاظ على الموارد ودعم المجتمع وسيف الأعراف الاجتماعية ذو الحدين. أرى أنّه مثال رئيسي على تقاطع الاستدامة والعدالة الاجتماعية والصحة البيئية. وأنا أعلم الآن أيضاً إن تحويل عاداتنا وأفعالنا الفردية يتطلب جهداً جماعياً متأصلاً في التواصل الفعال، وتعزيز التعاطف والصحة العقلية، وتمكين الأصوات المهمشة. لذلك، حتى لو لم ينجح بحثي تماماً في مساعدتي على إعادة تنشيط سلوكيات الأسرة السابقة، فأنا بالتأكيد أتقبلها وأفهمها بشكل أعمق، وهو ما يمثل نقطة انطلاق نحو التواصل والتعلم الأكثر صحة بين بعضنا البعض.
سأسعى جاهدة لتكريم ذكريات الماضي مع احتضان إمكانيات المستقبل، حتى لو كان ذلك يعني أنني قد أضطر إلى تناول الدولمة في طبق مخصّص للاستخدام مرة واحدة، أو قبول شربة ماء من زجاجة بلاستيكية، أو وضع غطاء بلاستيكي على الطاولة، وارتداء سترة خفيفة لتحمّل تكييف الهواء المفرط في أشهر الصيف، حين نجتمع سوية.