في ذلك اليوم، انفتحتْ أمامنا أبوابٌ كثيرة، وتبعتها أخرى لا تُعد. بعضها كان مغمورًا بالفرح، وبعضها حمل ثِقل الفقد والألم. أُزيحت أبواب الزنازين وأرشيفاتها، كما فُتحتْ أبواب القصر الرئاسي وألبومات صور بشار الأسد الخاصة. الحدود السورية والمنازل فتحتْ أيضًا أبوابها، مرحّبةً بعودة أولئك الذين أُجبروا على الرحيل، ممن لم يتخيلوا يومًا أنّ العودة ممكنة. ذلك الأبد، الذي نسجه نظام البعث بإحكام، بدا كنسيجٍ يلتفّ حول الأفق بأسره، ويخنق كل احتماليةٍ لفتح هذه الأبواب. لم يكن بعيدًا ذلك الزمن الذي بدا فيه هذا المستقبل، الذي نعيشه اليوم، مستحيلًا، غير متوقع، بل وغير متخيّلٍ تمامًا.
واليوم، فتحنا أرشيفاتنا نحن أيضًا.
بصدق، عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، تعود جذور هذا الفتح إلى زمنٍ بدا فيه النسيج مستهلكًا حتى آخر خيط، كأنّه لا يُمزّق، إذ كان الواقعَ الوحيد الذي عرفناه وعايشناه. في ظل هذا القبول، وربما الاستسلام، كنا نؤمن أنّ ثمة معنىً في أن نقول شيئًا عن ماضٍ، عن زمن ثوري، بدا وكأنه قد أُغلِق إلى الأبد كمشروع سياسي.
يمكن قراءة هذه المجموعة من النصوص ضمن سياق أعمال التوثيق والأرشفة، التي رافقت الثورة منذ بدايتها، كأدواتٍ حيّةٍ سجّلت واقع الحرب، وتحولتْ لاحقًا إلى أحد أشكال مقاومة القمع، وأساسٍ للمطالبة بالعدالة والمساءلة في سوريا وفي المنافي. إذ أن حفظ المواد المسروقة، والمهرّبة، والمنقذة، سواءٌ أكانت فيديوهاتٍ، أو مذكرات، أو صورًا، أو شهادات، أو قصصًا، لم يكن سوى سبيل لإبقاء الروح الثورية نابضة، وللبرهنة على أن هذا “الحدث” لم يكن مجرد لحظةٍ عابرة، بل حقيقةٌ قائمة.
نسيجٌ حيّ
تخيّلنا أن تكون مقدمة هذه المجموعة امتدادًا لمسار الأرشفة، وانفصالًا عنه في آنٍ معاً. سعينا إلى التقاط: كيف تتسلل الأرشفة إلى كل خيطٍ من أفكارنا، ومن أحاديثنا، ومن محاولاتنا للكتابة عن الثورة، ما قبلها وما بعدها، تمامًا كما تتسلل أفكارنا إلى الحقائق نفسها. فتَشكُّل هذه الأرشيفات لا يفصل بين الفرديّ والجماعيّ، بين المُعاش والمتخيَّل، بين الماضي والحاضر.
هي شذراتٌ تتكشّف كنسيجٍ حيّ: ساعة، أغنية، أمواج بحرٍ لا تهدأ، تلفازٌ مكسور، حافلاتٌ خضراء، وموقعٌ بيروقراطيّ. كلّ جزءٍ من هذا الأرشيف يحمل صداه الخاص، يتحدى قبضة النظام، ويرفض السرديات الموحّدة، حتى تصبح كلُّ كلمةٍ فعل مقاومة، ورفضًا لترك لحظات الأمل واليأس العابرة تتلاشى من دون أن تُدوَّن أو تُروى.
قبل 8 ديسمبر 2024، لم يكن في حوزتنا سوى هذه الشذرات، نحاول بها فهم تاريخٍٍ صاغه الفقد والمنفى، ونتلمّس من خلالها الزمن بما وثّقناه وكتبناه. لكنْ، حين يتحول ما كان مستحيلًا إلى واقع، يعود الزمن إلى الحاضر، حاملاً معه أصداء الأمل والشفاء، التي بدورها تسلّلتْ إلى كلماتنا. ها هي ساعة التاريخ تدقّ من جديد، ويتدفق الزمن مرةً أخرى، ليذكّرنا بأن التاريخ، وهذه الأرشيفات، ليست مجرد مستودعٍٍ جامد لـ “ما كان”، بل كائنٌ حيّ، نابض، يتحرّك ويتنفس، يحمل ثقل الماضي ووعد الممكن. ضوءٌ جديدٌ يسطع على مساحات الحزن، والسوداوية، والخوف، والإذلال، التي ظننّا أننا فهمناها، لكننا لم ندركها تمامًا. ما حسبناه أبديّاً كان لا بد من إعادة تخيّله، إذ تمزّقتْ خيوط النسيج الذي أحكمناه حوله.
الكتابة، الأرشفة
وإن كان هذا واضحًا قبل 8 ديسمبر 2024، فقد ازداد جلاءً بعده. حين كتبنا هذه الشذرات الأرشيفية، اكتشفنا كيف تحوّلت إلى جسورٍ لإعادة تخيّل التاريخ وتشكيله باستمرار. هذه الأرشيفات المتشظية تنسج خيوطًا من زمنٍ مبعثر، وتعيد إلى الذاكرة أنفاسًا جديدة. ينهار الزمن ويُعاد ترتيبه، فهو لم يعد مجرد خطٍّ مستقيم، بل دائرةٌ تتناغم فيها النهايات مع البدايات، ويتحول الفقد إلى إمكانياتٍ متجددة. الكتابة، إذًا، باتت بالنسبة إلينا مفتاح التحول، وآلة زمنٍ تنساب بين الذاكرة والحاضر، وتشارك في بناء هذه الأرشيفات وإعادة تشكيلها على الدوام.
ليست الكتابة والأرشفة تمارين فكريةً فحسب، بل هي أفعالٌ عاطفية وسياسية، ترفض أن تُسلّم الذاكرة إلى الصمت. حتى الأشياء تتخلى عن سكونها وتغدو كائنات، كياناتٍ مستقلة، تتنفس. تستحضر قلعة حلب الطفولة، في متاهةٍ من الذكريات التي أعادت الثورة نسيجها. يتشكل جسرٌ بين مواقع الذاكرة هذه، مجسدًا الحماية والفقدان في آنٍ معاً. الفقد ملموسٌ في دمار حلب، لكنه حاضرٌ أيضًا في صمت البحر، ذاك الذي يحمل في جوفه قصصًا تُروَى، وأحلام نجاة، وأطياف موت. ويحمل ساعةً، كانت صامتةً من قبل، تبدأ في النقر بتحدٍّ، مسترِدّةً الزمن المفقود من هوّة النسيان. على ساحات الرقص في برلين، تتداخل أصداء صوت عبد الباسط الساروت مع إيقاعٍ جديد، يربط سوريا 2011 بليالي 2019 النيونية، حيث تتلاشى الثورات الماضية في نبضاتٍ موسيقيةٍ متقطعة، وشذراتٍ متناثرةٍ من الأمل.
في سعينا لكتابة أرشيفنا الخاص، وأرشفة شذراتنا، سعينا أيضًا وراء المعنى في فضاءات ذاكرةٍ فوضويةٍ متكسرة. في عالمٍ تتشكل فيه الخسارات والشروخ في مجرى التاريخ، نلتمس شذراتٍ تتّصل ببعضها، لتمنحنا رؤىً حول: كيف ولماذا تشكّلت الأمور في زحام ما حدث. يصبح هذا البحث عن المعاني مواجهةً حيّةً مع الماضي، متبدّلة، وزائلة أحيانًا. فلم نبحث عن تفسيرات مباشرة، بل عن معانٍ تتساقط من غموض التجربة.
في الصفحات التالية، عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، نشاركك هذه المعاني التي تحملها أصداء الأصوات الضائعة، وأجزاء الثورة، ومرارة الفرص المهدورة، وطعم التجدّد المفاجئ. لكنْ؛ تبقى المعاني، كما الأرشيفات، مراوغةً دائمًا، كلمعةٍ خاطفة، أو فكرةٍ نظنّ أننا التقطناها، لكنها تفلت منا مجددًا. في هذا المسعى، تتحوّل الأرشيفات إلى فضاءاتٍ للتغيّر المستمر. عمليةٌ لا تنتهي، تدفعنا إلى أسئلةٍ قد لا نجد لها أجوبةً كاملة، لكنها تدفعنا قدمًا، كما فعلت بالأمس، وكما تفعل اليوم..
كُتب هذا النص قبل فبراير 2025.
النص جزء من ملف “أبدٌ يتفكك“، من تنسيق فيرونيكا فيريري وإنانا عثمان.
الملف ثمرة تعاون بين “Archivwar” و”Untoldmag” و”Arabpop“
التنسيق البصري: غريغ أولا
حصل هذا المشروع على تمويل من برنامج الاتحاد الأوروبي “هورايزون أوروبا” للبحوث والابتكار، في إطار اتفاقية منحة “ماري سكلودوفسكا-كوري” رقم 101064513 تحت عنوان:
“ARCHIVWAR – الأرشيف في زمن الحرب: عائلات متفرقة وماضٍ يتلاشى في سوريا المعاصرة”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي.
الآراء والمواقف المعبر عنها في هذا المشروع تعود حصريًا للمؤلفين ولا تعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي أو الوكالة الأوروبية التنفيذية. ولا يتحمل الاتحاد الأوروبي ولا الجهة المانحة أي مسؤولية عنها.