لم يعرف المشهد الإعلامي العالمي اضطرابًا أكبر من الذي شهدناه خلال التسعين يومًا الماضية.
فقد سرّع الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، بعد هجمات السابع من أكتوبر، التغيير الجذري في ديناميكيات نقل الأخبار، وقد ترتبت على ذلك تأثيرات على مستويات متعددة، سيستغرق تقييمها وفحصها بشكل مناسب وقتًا طويلًا.
“لدينا مشكلة تيك توك“، قال جوناثان غرينبلات، مدير رابطة مكافحة التشهير، في تسجيل صوتي سُرّب في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، مُعربَا عن أسفه لانتشار “الدعاية المعادية للسامية“. وأضاف: “المسألة ليست قضية “يسارًا ويمينًا“، بل “شبابًا وشيوخًا“.
ادعت المرشحة الجمهورية نيكي هيلي أن مشاهدة تطبيق التيك توك جعلت الناس “أكثر معاداة للسامية بنسبة 17%، وأكثر تأييدًا لحماس كل 30 دقيقة“.
ظهر لاعب جديد في حروب السرد الإعلامي، “جيل زد تيك توك” (Gen Z TikTok). وهي حركة ناشئة، بلا قيادة، من الشبان الذين يعملون كمصادر إعلامية ووسطاء ومترجمين، وقد جاءت كرد على ما يعتبرونه دعاية وأكاذيب تنشرها وسائل الإعلام الرئيسية، عن تقارير الهجمات المتواصلة على غزة وأعمال العنف في الأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان.
يرفض مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الشبان، الذين يُحظى بعضهم بعدد متابعين يفوق عدد متابعين البرامج التلفزيونية الأمريكية الأكثر مشاهدة، بشكل صارخ السرد الذي يُشبههم بمناصري الإرهاب بسبب رفضهم للحرب، أو يَتّهِمهم بمعاداة السامية بسبب معارضتهم للصهيونية.
لم يكن انتشار المعلومات المضللة والتنميط والتقارير المتحيزة حول القضايا الفلسطينية أمرًا مفاجئًا. إلا أنّ خطورة الأحداث الأخيرة وتباين الردود والرهانات المتداولة، أطلقت العنان لمستوى جديد تمامًا من الجهود المتضافرة والمتعددة الأقطاب للسيطرة على السرد، التي رافقت تطور الحرب على الأرض.
السيطرة على السرد واستراتيجيات المواجهة
تشير عدة تقارير نشرتها مؤخرًا منظمات كبيرة، تُعنى بحقوق الإنسان ورصد ومراقبة وسائل الإعلام، إلى أن شركات ميتا وغوغل وإكس كانت تعمد على بمراقبة المحتوى المؤيد لفلسطين بشكل منهجي. وقد أبلغ مستخدمون من أكثر من 60 دولة عن هذه الأنشطة المريبة، مثل اختفاء المنشورات وتعليق الحسابات.
يُدرك مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي تلك الأساليب جيدًا، بما في ذلك ممارسة “الحجب الجزئي” (shadowbanning)، وهي أداة رقابة ناعمة تُستخدم لتقييد وإخفاء المحتوى الحساس أو المثير للجدل، دون حظره بشكل تام (وهو أمر قد يخضع للتدقيق القانوني/المؤسسي).
في الحال، أطلقوا استراتيجيات اختراق للتغلب على هذه القيود: بدءًا من نشر صور السيلفي وصور حيوانات أليفة لطيفة، واستخدام “فخ العطش” (Thirst trap) (المنشورات المصممة لجذب المشاهدين من خلال محتوى جذاب) مع كتابة تعليق “استراحة خوارزمية” (algobreak)، إلى إخفاء هاشتاغ وملصقات “أنا أقف مع فلسطين” (#IstandwithPalestine) وراء لقطة الشاشة. حتى أنهم قاموا بتضمين “أنا أقف مع إسرائيل” (#IstandwithIsrael) في منشوراتهم، للاستفادة من حقيقة أن هذا هو نوع المحتوى الذي تهتم الميتا وغيرها من المنصات بتعزيزه، بغض النظر عن مدى تماشيه مع آراء المستخدمين.
لقد تعلم “الزومزز” (Zoomers) أو الجيل زد، (الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و27 عامًا)، وإلى حد ما جيل الألفية، بشكل أفضل وأسرع من الأجيال السابقة، أن منطق ومدى رؤية المنشورات وعدد النقرات تؤثر على أجندة الأخبار والمواضيع الإخبارية، أكثر من المصلحة العامة.
علاوة على ذلك، فإنهم مدربون بشكل أفضل من الأجيال الأكبر سنًا في رصد الفرق بين التقارير الحقيقية والسليمة والحملات التي تُحظى بالإجماع. على سبيل المثال فقط، إذا كنت قد نشأت مع شخص مثل Georainbolt، وهو شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي متخصص في ألعاب Geoguessr، يظهر بشكل عرضي على موجز صفحتك، فمن المرجح أنك ستدرك، حتى لو كان ذلك عن طريق الصدفة، مدى توفر وسهولة الوصول إلى صور الأقمار الصناعية، ذات الجودة العالية مفتوحة المصدر، وأدوات تحديد الموقع الجغرافي الرقمية الحديثة.
ولهذا السبب، سيكون من الصعب للغاية إقناعك بأن إحدى أفضل الجيوش تمويلاً وأكثرها تقدمًا من الناحية التكنولوجية في العالم، لا يمكنها التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية.
غالبًا ما يكون جيل زد ملُّمين وسريعين في صياغة محتوى الملتيميديا وتعبئته، ممّا يجعلهم أكثر قدرة على اكتشاف تقنيات واستراتيجيات الدعاية المخفية. فهم قد نشأوا في ذروة الليبرالية الجديدة، وتعلّموا أن يُعامَلوا كمستهلكين، لا كمواطنين ذوي حقوق، ويتصرفون وفقًا لذلك. نظرًا لأهمية المصداقية والاستمرارية والخبرة على وسائل التواصل الاجتماعي، لا يرغب الشبان أن يصبحوا ضحايا سهلة لغسل الأدمغة (بالإضافة إلى الغسل الوردي والأخضر (pink and greenwashing)).
فالممثلة الإسرائيلية التي ادّعت أنها ممرضة عربية، خانتها لهجتها السيئة؛ وفتاة المهرجان التي زُعم أنها قتلت، قد وجدت لاحقًا في عيادة؛ والأربعون طفلاً الذين قُطعت رؤوسهم وخُبِزوا في الفرن؛ والمسيرات المؤيدة للجيش الإسرائيلي في القدس التي أُنشئت بواسطة الذكاء الاصطناعي؛ والمراهقون الإسرائيليون الذين ارتدوا ملابس استهزائية ليسخروا من الأمهات الغازاويات المصابات والمنكوبات وسط الأنقاض؛ والأفلام ووثائق الحرب القديمة التي تم تأطيرها على أنها لقطات أصلية لجرائم حماس … كلّها أمثلة على الاحتيال والتلاعب بالسرد الجاري منذ 7 أكتوبر، كُشف عنها على انستغرام وتيك توك، بفضل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من الجيل زد.
بالإضافة إلى ذلك، لاحظنا أن صناعة “فضح الزيف” بشكل عفوي يمكن أن تؤثر أيضًا على وسائل الإعلام التقليدية.
كلما وصل جزء من الدعاية إلى الواجهة في وسائل الإعلام الرئيسية، يَسخر منها بسهولة جيش من صناع المحتوى الخفي، وسحرة الميمات، والملصقات المقرفة (shitposters)، والحسابات المتخصصة في المحتوى الساخر ذي الجودة الرديئة، الذي يهدف إلى إخراج المناقشات، وفي هذه الحالة الدعاية تحديدًا، عن مسارها.
ومن الأمثلة الحديثة على ذلك، عندما ارتكبت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) خطأ في ترجمة مقابلة مع أسير فلسطيني محرر. بعد أن أكدت شركة Respond Crisis Translation، التي تُعرّف عن نفسها ك “مجموعة من الناشطين اللغويين“، أن الترجمة غير صحيحة، اضطرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في نهاية المطاف إلى إصدار توضيح واعتذار، بسبب عاصفة الانتقادات الواسعة التي تلت الحادثة على وسائل التواصل الاجتماعي.
في كل هذه الحالات، يقوم مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي بأداء دور جهاز المراقبة وآلية رصد الإعلام، التي يُفترض بالأصل أن تقوم به المؤسسات المستقلة / العامة / فوق الوطنية.
عندما يتصرف الأطفال كالكبار
في ظل تعزيز منصات وسائل التواصل الاجتماعي لسلطتها خلال العقد الماضي، أصبحت وسائط الإعلام التقليدية الرئيسية تحذر من عدم مصداقيتها كمصادر لأخبار غير مؤكدة. وقد وضعت نفسها في مواجهة مع وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرت نفسها المعلق “الموضوعي” الخارجي والضامن للحقيقة التاريخية. أو بالعكس، تبنّت منطق وسائط التواصل الاجتماعي بسلاسة، وبمجرد انتشار المحتوى النقدي على هذه المنصات، استسلمت في النهاية لتقوم بنقله ونشره باعتباره حدثًا يستحق التغطية الإعلامية.
وفي السنوات الأخيرة، في سياق النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، اجتاح عدد كبير من القصص التي لم يُبلّغ عنها بشكل كاف وفضائح الأكاذيب الشائعة، دوائر وسائل الإعلام الرئيسية، بسبب انتشارها على تويتر (الآن X ) وإنستغرام، ومؤخرًا تيك توك.
على سبيل المثال، خلال الاحتلال غير القانوني لمنطقة الشيخ جراح في الضفة الغربية في مايو 2021، ساهمت المنشورات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي وثقت الفظائع وتعبيرات التضامن من قبل مشاهير بارزين، مثل عارضة الأزياء بيلا حديد، في إسقاط الأحداث على جدول الأخبار العالمية.
بعد مرور 90 يومًا، ورغم الجهود المكثفة (مليارات الدولارات) المبذولة لقمع تداول هذا النوع من المحتوى، وعلى الرغم من مشاعر “الإعياء الناتج عن الغضب” (outrage fatigue)، وفقدان الوظائف، وحملات التشهير، يظل حجم المشاركات وعددها مرتفعًا.
يبدو أن تفاني صناع المحتوى المؤيدين لفلسطين ينبع من رغبتهم في أن يكونوا جزءًا من جماعة، ومن اهتمام حقيقي بمكافحة الدعاية ونشر المعلومات المضللة. فالجائزة التي تأتي من فعل المشاركة البسيط، لا تقدر بثمن.
فما يُحفّز المستخدمين على المساهمة بوقتهم في تدقيق الحقائق والتحقق من الأخبار، لتفكيك الدعاية الإسرائيلية، باستخدام مهاراتهم البحثية، ليس هدفًا ماليًا، مما يجعل السيطرة عليهم أكثر صعوبة.
بقدر ما أدت شائعة قطع رؤوس الأربعين طفلاً إلى تسريع تصعيد هجوم 7 أكتوبر، يمكن أن تُقلّل عمليات الإزالة المسرحية والمنتشرة للعديد من أكاذيب الحسابات المؤيدة للجيش الإسرائيلي من الضرر، من خلال الضغط ببطء على المسؤولين عن نشر الأكاذيب، ودفع السياسيين وممثلي الشعب إلى الاعتراف والتراجع.
ومن الأمثلة على ذلك، السخرية الشرسة التي انتشرت على تطبيق “تيك توك” من مقاطع جيش الدفاع الإسرائيلي التي تُظهر “قائمة حماس“، حيث فضحت بشكل مضحك احتوائها ببساطة على قائمة بأيام الأسبوع، مثل ما كتب في تعليق على إحدى المنشورات: “هل اعتقدوا أن 313 مليون شخص في العالم، الذين يتحدثون ويقرأون اللغة العربية، لن يلحظوا ذلك 💀 #arab tik tok”.
في منشور انتشر على إنستغرام في 7 كانون الأول/ديسمبر، يظهر الصحفيون في غزة الذين اشتهروا على وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارهم “أشخاص العام” في مجلة تايم. انتهى الأمر ببيسان وسام، ومعتز عزيزة، وبلستيا العقاد، وهند خضري، وعبود بطاح، وأحمد حجازي، وصالح الجرفاوي، ووائل دحدوح ويارا عيد على الغلاف (المزيف)، ولم يكن ذلك فقط بسبب شجاعتهم واحترافيّتهم، ولكن أيضاً بسبب شهرتهم الاستثنائية، في ظل النظام البيئي الإعلامي السائد الذي كان حتى ذلك الحين حذرًا في إعطاء المساحة للمصادر العربية المحلية ومترددًا في الاعتراف بالصحفيين ووسائل الإعلام العربية والمسلمة كمحايدين.
ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام التقليدية بشكل خاص، هي التي ظلت تنقل دعاية هاسبرا/جيش الدفاع الإسرائيلي غير الموثقة والقصص الإخبارية المثيرة، دون منح أي مساحة للتصحيحات والاعتذارات والاعترافات الضرورية، وفقًا لمعاييرها الخاصة في عملية إعداد التقارير. مما ألحق أضرارَا بالفعل، حيث بُرّر تصعيد الحرب جزئياً من خلال التقارير عن أحداث ثبت لاحقاً أنها ملفقة.
وبالتالي، يظهر أن منطق وسائل الإعلام اليوم قد انقلب، حيث يتم استدعاء وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متزايد للتحقق من وسائل الإعلام التقليدية والتأكد منها، على عكس الماضي حيث كانت مرتبطة بشكل رئيسي بالأخبار الزائفة أو خطاب الكراهية.
وربما يكون من السابق لأوانه (ومتفائل للغاية) أن نرى الأمر بهذه الطريقة. ومع ذلك، عندما يظهر أن منطق النقرات والنفوذ، قد أدى إلى تلويث اقتصاد الإعلام السائد بالكامل، بدلاً من منطق الاحتراف، فقد يكون هناك أمل في أن يساهم الشباب البارعون في التكنولوجيا في توجيه هذه الاتجاهات المسمومة.
عندما يتصرف الصحفيون المخضرمون في منتصف العمر، ومعظمهم من ذوي البشرة البيضاء، ، بطريقة تشبه تصرفات المراهقين الذين يشعرون بالمرارة، كما حدث في حالة الهجوم الذي شنته الصحيفة الألمانية على غريتا ثونبرج بسبب دعمها “الانتهازي والمستيقظ (ووك)” للضحايا المدنيين في فلسطين، يصبح وجود مجموعة جديدة من طرق التحقق من الأخبار واستراتيجيات وجماليات الدعاية المضادة ضروريًا.
إذا كانت الشخصيات العامة المعروفة في الصحافة تستخدم منصاتها للترهيب والسخرية من مراهق يعاني من متلازمة أسبرجر وتدعو إلى الترحيل الجماعي للمهاجرين العرب، فإن الخطاب الأبوي المألوف، المتمثل في “رفع الوعي” و“تثقيف الأجيال الشابة” حول “القيم الأوروبية” للتعايش واحترام حقوق الإنسان، يبدو متناقضًا.
تضاف إلى قائمة المؤثرين الشبان والشعبيين شخصية جديدة، وهي لمى جاموس من غزة، البالغة من العمر 9 سنوات، وهي صحفية طموحة تنقل تجربتها اليومية للحرب مباشرة.
في منشور لها بتاريخ 19 ديسمبر بعنوان “معاناة الناس في غزة“، شاركت ما يلي: “سأحدثكم عن معاناة الناس في المواصلات حيث لا يوجد زيت للسيارات. حالياً، لا توجد سيارات لنقل الأشخاص، لذلك يعتمدون فقط على هذه الوسائل للوصول إلى وجهاتهم. أريد أن تنتهي الحرب بسلام، وأن نعود إلى منازلنا بسلام”.
بمعنى آخر، في هذا المناخ، الأطفال هم الذين يتصرفون كالكبار في الغرفة.
تشير تقارير من مصادر إسرائيلية إلى انشغال نتنياهو المتزايد بالدعم الشعبي المتصاعد للقضية الفلسطينية، الذي أصبح أقوى بفعل التظاهرات، والأفعال المباشرة، والإدانة الرسمية من قبل السياسيين، وممثلي الأمم المتحدة، والمشاهير وغيرها من الشخصيات العامة.
بدون الجهود المتضافرة التي تبذلها شبكة متباينة وفضفاضة (جذمورية؟) من الأفراد والجماعات في جميع أنحاء العالم، فإن المنصات المنتشرة في كل مكان، والتي يتواصل من خلالها مليارات الأشخاص يوميًا، تُسهّل عن غير قصد سلسلة من التحولات المتوازية في جودة الروايات الإعلامية المهيمنة والفلاتر التي نقرأ الأخبار من خلالها. تتزايد أهمية مفهوم استخبارات المصادر المفتوحة (OSINT)، ليس فقط كمنصات منظمة، ولكن كممارسة موزعة وعفوية.
يتابع الملايين من الناس بيسان ويثقون بها، وهي إحدى أشهر الصحفيات الشابات من غزة. وذلك، ليس بسبب “موضوعيّتها“، أو بسب مهارة ودقة مقاطع الفيديو الخاصة بها، ولكن لأنها تعيش وتشهد على هذه المأساة بنفسها، دون فلاتر، كل يوم، وبدون الهدوء المألوف (وإن كان غريبًا) لمذيعي الأخبار الغربيين “المحايدين“.