جوسلين صعب، مراسلة وصانعة أفلام وفنانة، وُلدت في بيروت عام 1948 وتوفيت في باريس عام 2019، وقادت مسيرة مهنية في خدمة النضال من أجل العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها (في فلسطين، والصحراء الغربية، وكردستان، إلخ.). أثبتت صعب نفسها كصانعة أفلام رئيسية في تاريخ الصور، من خلال تمسّكها بأسلوب وثائقي شخصّي وحر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، التي قامت بتغطيتها من عام 1975 إلى 1982.
على مدى مسيرة امتدت لنحو 50 عامًا، استمرت في ابداعها مُعْتمدة على الأفلام الخيالية، والتركيبات الفنية للوسائط المختلطة، وفن الفيديو، والتصوير الفوتوغرافي. من البداية إلى النهاية، كانت أعمال جوسلين صعب منغمسة بالنضال الفلسطيني، الذي جسدته بسوداوية شديدة في عملها الأخير، “اسمي هو مي شيجينوبو” (My Name is Mei Shigenobu, 2018). شكّل نضال الفلسطينيين من أجل حقهم في العودة محور التزامها السياسي، الذي تجلّى خلال النصف الأول من مسيرتها كمخرجة أفلام وثائقية. فبين عامي 1974 و1982، في خضم الصراع اللبناني، قامت بإنتاج نحو عشرة أفلام تتناول وضع الفلسطينيين خلال النزاع، مركزة على سكان المخيمات في جنوب بيروت أو جنوب لبنان، الذين نزحوا بسبب الغزو الإسرائيلي في جنوب البلاد، أو على مقاتلي المقاومة في صفوف الجماعات المسلحة.
مؤخرًا، جرى استعادة وترميم تقاريرها الأولى، التي كان من الصعب الوصول إليها لفترة طويلة، وانتشرت اليوم بقوة، إذ تقدم منظورًا تاريخيًا للصراع المستمر في غزة والضفة الغربية.
دعوة وُلِدت من الالتزام
يعود ارتباط جوسلين صعب السياسي والسينمائي بالنضال الفلسطيني إلى مطلع شبابها. فهي قد وُلدت في عائلة لبنانية مارونية من الطبقة الوسطى، ونشأت في حي مختلط جدًا في غرب بيروت. لم تكن على دراية بوضع اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات جنوب بيروت حتى انضمت إلى كلية الاقتصاد في جامعة القديس يوسف في بيروت، أثناء زيارتها الأولى للمخيمات مع زميلها إلياس صنبر.
بعد اكمال دراستها في باريس، دخلت عالم الصحافة، حيث وَظّفتها القناة الفرنسية العامة FR3 في عام 1973. شكّل تمكنُّها من اللغة العربية والإنجليزية والفرنسية إضافة قيْمة للقناة، وسرعان ما أُرسلت إلى ليبيا لمقابلة القذافي، وإلى هضبة الجولان السورية ومصر خلال حرب أكتوبر، وإلى العراق خلال حرب صدام حسين ضد الأكراد في عام 1974.
في عام 1974، قامت بتصوير فيلم بالتعاون مع الصحفي أرنو هاملين بعنوان Les Palestiniens continuent (“الفلسطينيون يواصلون القتال“) حول مقاومة الجماعات الفلسطينية المسلحة على الحدود السورية في جنوب لبنان. وفي العام نفسه، وبمبادرة منها، أصدرت تقريرًا بعنوان “نساء فلسطينيات” (Les Femmes Palestininienns) حول نضال المرأة الفلسطينية في لبنان، والذي شمل التعليم والكفاح المسلح. رفضت FR3 الموضوع ووضعته على الرف. ولم تشاهد جوسلين صعب فيلمها مرة أخرى في حياتها.1
صور لتاريخ مقاوم
كانت هذه الرقابة الأولى حاسمة. فبعد أن عُرضت عليها وظيفة كمراسلة حرب في المنطقة، قررت مغادرة التلفزيون والبدء في إنتاج تقاريرها بشكل مستقل.
ازدادت شهرتها مع مرور الوقت. كانت قصتها الأولى عبارة عن “سبق صحفي“، حسبما وصفتها الصحافة الفرنسية آنذاك، إذ كانت أول صحفيّة تدخل معسكرًا تدريبيًا للفدائيين. يوثّق فيلم Le Front du Refus (جبهة الرفض)، الذي صدر في عام 1975، ممارسات هذه المجموعة الراديكالية. أثار الفيلم انتقادات من منظمة التحرير الفلسطينية، التي اعتبرت أن الكشف عن الجماعات الراديكالية لا يخدم القضية. وأعربت صعب نفسها عن أسفها إزاء تأثير صورها على الجمهور الأوروبي، حيث لم تُفهم الرسالة التي كانت تسعى لنقلها.
في عام 2013، أخبرتني: “اِعتُبِر فيلم “جبهة الرفض“، في ذلك الوقت، سبقًا صحفيًا. وكان الفيلم الوثائقي الأول الذي جعلني أدرك قوة الصور ومعناها، والقراءات المختلفة التي يمكننا استخلاصها منها، والتي تتأثر بكل شيء، بدءًا من نسبة أبعاد الصورة إلى تكوينها. لم يكن الأمر يتعلق بالنضال. يمكنك أن تدافع عن قضية، ولكن يجب أن يكون لديك فهم أساسي للغة الصور وما يمكن أن تؤدي إليه… وأن تعرف كيف يمكن أن تنقلب الصورة ضدك.”
أما اليوم، يُعتبر هذا الفيلم شهادة مُلهمة ووثيقة تاريخية مهمة، تكشُف عمّا يُميّز بالعمق أعمال جوسلين، أي الصورة في خدمة الإنسانية. رغم انتقادها لأساليب هذه الجماعات المتطرفة، تُصوّر صعب هذه الأجساد الشابة جدًا (هؤلاء المجنّدون، كما تقول، كانوا بالكاد في السادسة عشرة من عمرهم)، المستعدين للموت بعزم راسخ، من أجل أرض لم يعرفونها أبدًا.
وبفضل تدريبها كصانعة أفلام في التلفزيون الفرنسي، كانت أفلامها ملتزمة جدًا، ولكنها لا تتّبع قواعد السينما النضالية. مع اندلاع الحرب في لبنان في عام 1975، قررت صعب البقاء وتوثيق بلادها. قامت بإنتاج نحو خمسة عشر وثائقيًا حول الوضع في لبنان، باعتها لقنوات تلفزيونية حول العالم، ولا سيما FR3، التي استمرت في التعاون معها.
تخلّت تدريجيًا في أفلامها، التي تميّزت باستقلاليتّها وحرّيتها، عن قيود صناعة الأفلام الوثائقية. على سبيل المثال، صُوّر فيلم “أطفال الحرب” (Les Enfants de la Guerre, 1976)، في مدينة الصفيح في حي الكرنتينا (في بيروت)، الذي يسكنه بشكل رئيسي مسلمون لبنانيون وأكراد وفلسطينيون يعيشون في ظروف هشّة، والذين كانوا ضحايا مذبحة ارتكبتها الميليشيات المسيحية اليمينية المتطرفة قبلها بأيام قليلة.
رفضت صعب تصوير المذبحة، وعادت لاحقًا لتصوير الأطفال الناجين وألعابهم الحربية بشاعرية مأساوية. استعانت بالشاعرة إتيل عدنان لكتابة تعليقات فيلمين من أفلامها، ” بيروت لم تعد كما كانت” (Beyrouth, Jamais Plus, 1976) و“رسالة من بيروت” (Lettre de Beyrouth, 1978)، حيث يروي الأخير غزو إسرائيل لجنوب لبنان، واحتلال الأراضي اللبنانية من قبل قوات أجنبية عديدة، والمقاومة الفلسطينية عند الحدود، بقيادة ياسر عرفات. وكانت جوسلين صعب واحدة من بين بضعة صحفيين من التلفزيون الفرنسيين الذين غطوا العمليات الإسرائيلية في جنوب لبنان منذ بداية الحرب.
متحدثة محترمة
في عام 1982، احترق منزل عائلتها الكبير في بيروت الغربية. بعد بضعة أسابيع، دخل الجيش الإسرائيلي بيروت وفرض حصارًا على غرب المدينة. بقيت جوسلين صعب في المدينة. نَفَذَتْ منها أفلام الـ 16 ملم، لكنها تمكّنت من شراء أفلام الـ 35 ملم وكاميرا.
صوّرت الحصار، بشكل رئيسي بمفردها، حيث لم يكن مصورها السينمائي يرغب في تحمل المخاطر. صوّرت الدمار والحواجز، والأهم من ذلك، صوّرت كيفية تنظيم مجتمع يحاول النجاة خلال الحصار والقصف. من هذه الصور، أنتجت جوسلين صعب العديد من الأفلام، منها أفلام للتلفزيون، مثل تقرير “اللبنانيون رهائن مدينتهم” (Les Libanais, Otages de leur ville, 1982)، الذي بُثّ على TF1 واستُعيد اليوم نسخة عمل غير مُكتملة منه، وفيلم شخصي جدًا، بعنوان “بيروت مدينتي (Beyrouth, ma ville، 1982)، الذي يشهد على التزامها الصادق بالقضية الفلسطينية وفقدان آمالها عند مغادرة المقاتلين للبلاد.
في فيلم “بيروت، مدينتي“، كتب الكاتب اللبناني روجيه عساف التعليق الصوتي، الذي كان شاعريًا جدًا وسياسيًا بامتياز. بُثّ الفيلم في وقت الذروة على القناة الفرنسية العامة Antenne 2، ولكن بنسخة أخضعتها القناة التلفزيونية للرقابة، إذ حَذفت مقطعًا ينتقد معاملة الجيش الإسرائيلي للسجناء الفلسطينيين.
استنكر روجيه عساف هذا الحذف، مُعرِبًا عن غضبه. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تتعرّض فيها أفلام جوسلين صعب للتحرير من قبل التلفزيون، لكنّها شعرت بأهمية بث صورها، حتى لو حُرّرت، عوضًا عن عدم عرضها بتاتًا. انتشرت النسخة غير المُحرّرة من الفيلم في المهرجانات، حيث نالت استحسانًا2.
على الرغم من عدم انتمائها إلى أي حزب، حازت صعب على احترام ياسر عرفات، بفضل التزامها القوي تجاه القضية الفلسطينيّة. اتصل بها عرفات لتوثيق رحيله من لبنان على متن سفينة أطلانتس، التي ستقله إلى اليونان ومن ثم تونس، حيث سيقيم مقر المنظمة التحرير الفلسطينية الجديد. كانت صعب هي الصحفية التلفزيونية الوحيدة على متن السفينة، بالإضافة إلى المصور فؤاد الخوري والصحافي سليم نسيب من الصحيفة الفرنسية ليبراسيون (Libération). أخرجت فيلم “سفينة المنفى” (Le Bateau de l’Exil, 1982)، وهو لوحة عن قادة منظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب هزيمة كبرى. يعكس التعليق، المكتوب بضمير المتكلم، والذي قرأته جوسلين صعب، مخاوف وآمال صراع يتطلع دائمًا إلى المستقبل.
تضامن حتى لحظة وفاتها
بعد خروج الفلسطينيين من بيروت، توقفت جوسلين صعب عن صناعة أفلام وثائقية حول الحرب اللبنانية. إذ قامت بإنتاج أفلام روائية في لبنان، منها “حياة معلقة” أو “غزل البنات” (Une Vie Suspendue, 1985)، “كان يا ما كان، بيروت: قصة نجمة” (Il était une fois Beyrouth: Histoire d’une Star)، لكنها وجّهت كاميرتها الوثائقية نحو أماكن أخرى، مثل مصر وفيتنام. ولجأت إلى التصوير الفوتوغرافي وفن الفيديو لتغطية الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في عام 2006 (ألعاب غريبة وجسور، (Stranges Games and Bridges) المتحف الوطني في سنغافورة، 2007).
كان مشروعها الأخير في الأصل فيلمًا روائيًا طويلًا، يتنقّل بين الوثائقي والخيال. وكان يحمل عنوان “شيغينوبو: الأم والابنة“، وكان من المفترض أن يكون تصويرًا مشتركًا لفوساكو شيغينوبو، مؤسسة الجيش الأحمر الياباني في لبنان، وابنتها مي، التي ولدت نتيجة علاقة الأم مع قائد فلسطيني، وبقيت في الخفاء لمدة 27 عامًا، حتى اعتقال والدتها في اليابان في عام 2000. للأسف، لم تتمكن صعب من إكمال هذا الفيلم الذي كانت تتطلع فيه لتحقيق أمنيتها: التحدّث من جديد عن حصار بيروت والمقاومة الفلسطينية. ورغم ذلك، نجحت في تنظيم جلسة تصوير سريعة مع مي لفيديو قصير بعنوان “اسمي مي شيغينوبو” (My Nams is Mei Shigenobu, 2018).
أثناء كتابة هذا الفيلم، كانت صعب مريضة ومهووسة في تلك الفترة بمصير ومقاومة عهد التميمي، التي رأت فيها أملاً للمستقبل، إذ قالت: “إن النضال الفلسطيني هو آخر ما تبقى من نضالاتنا. أنا مصممة تمامًا على صنع هذا الفيلم حول المقاومة في بيروت حتى زمن الحصار، لأنه يُجسّد في الوقت نفسه اللحظة الأكثر كثافة في حياتي، واللحظة التي تجعلني اليوم، بسبب فشلها، أشعر بحزن شديد. فتكريس حياة المرء للنضال، كما فعلت فوساكو، كان مدمرًا لابنتها، ومع ذلك، تستمر الأجيال القادمة في حمل هذه الشعلة، لأنها معركة من أجل الإنسانية.”
ينظر الفيلم، في الحاضر، إلى الماضي النضالي؛ وتظهر صعب، المُتعبة، في علاقة وثيقة ومؤثرة للغاية مع طفلة المقاومة مي، التي تروي قصتها. اكتمل الفيلم قبل عشرة أيام من وفاة صعب.
عُرضت أفلام صعب الوثائقية من الفترة اللبنانية (1974-1982) في سينما بابل كجزء من استعادة نظّمها الديوان – البيت الثقافي العربي في برلين وجمعية جوسلين صعب (10-12 نوفمبر 2023)، وستُصدَر على أقراص DVD في أوائل عام 2024. الأفلام المذكورة في هذا النص مُتاحة بنسختها الأصلية مع ترجمة باللغة الإسبانية على صفحة جوسلين صعب الفيميو https://vimeo.com/jocelynesaab.
1 كُشف من جديد عن الفيلم بعد أعمال الترميم التي قامت بها جمعية جوسلين صعب بين عامي 2019 و2022، وهو اليوم متاح للمشاهدة.
2 رُمِّمت جميع الأفلام وأُعيدت إلى نسخها الأصلية. النسخ الخاضعة للرقابة متاحة في أرشيف التلفزيون الفرنسي (INA).