مضى سنة، مثل كل السنين؟ لا…
بسرعة متل غيرها؟ لا
هل أنا بعدها كما كنت قبلها، أيضا لا
شو صار؟
كنت عم أمشي
كنت؟
وما زلت…
لم أكن لمدة طويلة من قبل، على تماس يومي مع الطبيعة المحيطة بي كما كنت خلال تلك السنة التي مضت. منذ أن أجبرت على ترك بيتي بسبب التدهور الاقتصادي الحاصل وبالتالي الخدماتي الذي لحق بلبنان. وجدت نفسي في فوهة مظلمة لا قرار لها…تركت بيتي وجزءا كبيرا من عالمي ورائي وجئت بلا حقائب، إلى بيت ليس بيتي، إلى ضيعة صغيرة في جبل لبنان، تطل على بيروت.
كنت أخور كبقرة فطموا عن ضرعها عجولها. وطن ينهار…عالم أفقده الجشع عقله، اضافة إلى هزائم شخصية، تصبح تحت المجهر حين يكون كل ما حولك حطام. جئت بحمل ثقيل في قلبي مع الاحساس بهزيمة الأمل.
جئت إلى هذا البيت في الضيعة الجبلية حيث أنعم علينا شخص كريم بالكهرباء التي حرمنا اياها فساد حكامنا، إذاً أقدر أن أقوم بشكل طبيعي بما لا أقدر أن أقوم به من دون كهرباء.
كان لا بد أن أكون في مكان آخر وإلا سأتعفن بالمرارة وتطفأني الخيبة…كان يجب أن أنتقل، أن أبتعد عن كل هذا الهراء إلى مكان ما، ولكن إلى أين؟ فأينما توجهت هي قبلة الخيبات…الفجيعة البشرية في كل مكان.
هراء في كل مكان، فأين المفر؟
كان علي أن أفعل شيئا كي أنجو بنفسي. لكن قنوطي كان يُغريني بالبقاء دون حركة، كان يزيّن لي محاسن الإستسلام.
من هنا أقدر أن أشارك مشهد مغيب الشمس نفسه الذي يراقبه المشاؤون على كورنيش البحر في العاصمة بيروت. تفصل بيني بينهم هضاب من الأشجار وسفوح خضراء.
هنا أقدر أن أعاشر الطبيعة التي لطالما كان عندي توق للاتحاد بها.
هنا أقدر أن أبتعد عن جحيم الآخر…هنا قد أقدر أن أقترب من نفسي.
إيه…أيضا هنا أقدر أن أمارس هوايتي العزيزة، المشي بصحبة الطبيعة بعيدا عن التلوث وزحمة المدينة.
رفعت أصبعي أحذر نفسي الهدامة التي كانت تغريني بالبقاء في السرير.
رحت أمشي …
في البدء كنت أمشي مع ظهر محدودب… كنت ثقيلة أجرجر رجلي مع كل حملي.
بدأت أمشي، وكلما مشيت أكثر كلما استقامت هامتي، كلما أخذت أبتعد أكثر عن ما كنت أريد الابتعاد عنه واقترب أكثر مني، من الطبيعة، من الجوهر. ما أن أخطي خطوات قليلة حتى يدعوني صدري إلى أخذ نفس عميق، ومع النفس العميق الذي يمتد إلى كامل الجسم، تبدأ الحواس بالاستيقاظ، أشتم الروائح من كل ناحية وصوب، أفتش على مصادرها ـ أقترب منها، أتأملها، المسها وأعرف حتى طعمتها من رائحتها.
هنا عشت ولادة الزهور والنبات واكتمال رونقها ومن ثم ذبولها وتواريها ليحل محلها، بتبدل متناغم يشبه السحر، فوج آخر من زهور ونباتات حالات حمل وولادة ونضج مستمرة… كل يوم مفاجأة أو مفاجآت…هنا أخذت الدهشة تحل مكان الفاجعة.
أراقب سقوط ورق الأشجاروتعريها كليا أمام ناظري، ومن ثم استعداداتها شيئا فشيئا لاكتساء ثوب جديد وحمل جديد. أفهم كيف تتضافر العوامل الطبيعية في دورة النباتات والأشجار والزهور والأعشاب منذ أن ترمي بذورها حتى تفتحها ومن ثم تواريها…أي تواري؟ إنه جوهر التبدل والتجدد.
وأمشي قدما، أتنفس فينفتح صدري، تشتعل حواسي، يلتهب خيالي ويتدفق مع نبضي المتصاعد الأفكارالتي يبدأ دماغي ببصقها، افكار من هنا وهناك، قد لا يكون من علاقة بين فكرة وأخرى، أو ذكرى وأخرى، أفكار تولد مشاعر مختلفة، مشاعر تولد أفكار مختلفة وحالات متنوعة.
وأنا أمشي إجا أيلول حامل معه العنب والتين، أمشي واجا تشرين حامل معه الرمان والخرمة والزيتون وعربشت على حيطانه زهرة النجمة، أمشي وإجا كانون حامل معه البرتقال ياسمين الشتاء، أمشي أرى البرق وأسمع الرعد ويغسلني المطر والثلج، أمشي وتطل برأسها نبتة الثلج متل طفل ولد للتو… أمشي وأشهد أعراس مستمرة تختلف بين أول الشهر وآخره، وأحيانا بين شروق الشمس ومغيبها، أعراس الفاكهة والنبات والزهور والأشجار بحسب المواسم.
أبتهج وأفرح .
أتماهى مع تحولات الطبيعة تتبدل نظرتي للفقدان او الخسارة، كذلك للموت والفناء. تتغير نظرتي لنفسي ولكثير من مفاهيمي. تعلمني الزهور والورود أن أحب ما لا أملك، وأن لا أطمح لأملك ما أحب.
كنت دائما أشعر حين أكون في قلب الطبيعة، بين الأشجار والنبات والتربة والعصافير والحشرات، إني ببيتي. كنت دائما أشعرحين الغروب مثل طفل ترحل عنه أمه ، كنت دايما أنطر القمر متل عاشق عم ينطر حبيبه .وأستقبل الفجر متل أم أم عم تحضن أول مرة طفلها هللي خلق من شوي, كان دايما عندي حنين قوي غامض لشي مفقود، ما كنت أقدر أن أحدده :
تغني فيروز: فيروز – أنا عندي حنين
“أنا عندي حنين ما بعرف لمين، ليلية بيخطفني من بين السهرانين
بصير يمشيني ولبعيد يوديني
ت إعرف لمين وما بعرف لمين”…
لكن أنا عرفت لمين هالحنين.
جعلني المشي واجه حالة الحزن نتيجة الفقد لبداخلي. المواجهة دفعتني لعيش الحداد هللي ما عشته قبل. حداد على خيباتي الشخصية، وفجيعتي ببلدي، وفجيعتي بالإنسانية ككل. حداد على حب خسرته، على حب أعطيته، على حب لم أجده، على حب عشته. حداد على ما لم أقوم به، على فرص أضعتهاـ على أخطاء ارتكبتها، على جراح لم أعلم كيف أداويها.
حداد على وطن ضاع، على انسان سبق في تطوره التكنولوجي تطوره الإنساني بأشواط ونجح أكثر ما نجح في تطوير آلة الهدم وآلية الكسب المادي.
هو المشي من دعاني إلى هذا الحداد، هو من فقأ الدملة وجعلني أرى العمل يسيل ويسيل وكأنني تحولت إلى بركان مشتعل يبعث حممه كيفما اتفق. كان هذا البركان يشتعل أحيانا، وكان أحيانا أخرى يهمد. كان المشي عرابه، محركه، كاشفه، مسكنه، كما كانت الأميال التي قطعتها تقصر المسافة بيني وبين ذاتي وأعماقي.
هكذا طاف الحداد الجوهري فوق كل حداد، انجلت الخافية وعرفت لمين الحنين… الحنين الأصلي.
والحداد في لغتنا العربية: الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أَحدهما بالآخر أَو لئلا يتعدى أَحدهما على الآخر، وهو القاطع، إذ نقول سيف حداد أو سيف قاطع.
عرفت إنه حدادي الأكبر هو ليس خيباتي، ولا المصائب التي تنتشر في هذا العالمـ ولا حب فقدته، ولا حب لم أحصل عليه، بل هو الحداد المتأصل، منذ قبل أن تركت رحم أمي، هو الحنين ” للرحم الأم، رحم الأرض” الذي فارقته قبل أن يتكون وعيي، وهو الذي أتوق إليه، والذي أنا في حداد لفراقه.
لكن مهلا مهلا، كل في آوانه كما مواسم الزهور والفاكهة والنبات… والانسان في خريف العمر إما حكيم أو خرف ويبدو أن الطبيعة علمتني الحكمة.
وأنا أمشي، حل الصبر بدل القلق، والقبول بدل الحسرة، إيجاد الحلول بدل اليأس، والبحث عن الاتزان بدل الحزن.
أتابع المشي حرة من الغموض، من سحر الخافية.