هذا البحر
أبداً أزرقُ
تأخذهُ السماء يداً بيدٍ
عاد لنا
من جديدٍ كما مضى
وسيبقى لنا
بحرنا كان هنا
منذ صرخنا
الصرخة الأولى
بعالي صوتنا
وتركنا أمهاتنا
بذكرياتٍ كانت تطوف في خضمّ ذرّات الهواء
تفصلنا عن مصيرنا
وفي الصّمت المطبق
تحدّثَ صمتنا
إلى البحر فصدقت الكلمة
وها هنا
البحر ونحن باكون
والذّكريات تطوف بين ذرات الهواء
تعود لتبوح عن الآن
فالبحر عاد اليوم بيتنا
غصباً عن سنوات الفراغ
الخانقة لرمق كلماتنا
اليوم اليوم، باتت كلماتنا خياراً
وما زلنا نبوح بها
والأمل طريقنا
لكي لا نَنسـى
ولا نُنسى بعدها
08 ديسمبر 2024 إلى مدينتي جبلة
بينما تحاك لنا التّوقعات لنتصوّر جناناً ونخترع يوتوبيا خاصّة بنا، هل بإمكاننا أن نتوقّف لحظةً لنعيد كتابة سوريا الماضي؟ ماذا لو فكرنا بما يتجاوز الصّدمة وحديث التراومات؟ ماذا لو سمّيناها عملية تهميشٍ للذاكرة، وللذات على حدٍّ سواء، حتى نُجسّد ما مضى، فيما نجبر أنفسنا على نسيان أنّنا عشناه؟
كسوريّين وسوريّات، نجد أنفسنا دوماً في موضعٍ غير مريحٍ في قصةٍ لا بداية واضحةً لها، تبدأ متأخرة، ومن الأسهل أن نعتبرها مأساةً أو بؤساً واقعاً أكثر من أن نفهمها بالكامل. لقد أصبحت ذاكرتنا، التي لوَّنَها الخوف وانعدام الثّقة والسّيطرة، ساحة معركةٍ، عالقةٍ بين ”إباحيّة الصّدمة“ والتكتيكات الحديثة للمحو والنسيان.
سحابةٌ ممطرة تهيمن على عقولنا. ذكرياتنا تبدو حيّةً بالنسبة إلينا، لكنها غير مفهومةٍ لمن حولنا. نحن نعرف ما نعرفه، ولكن كيف نتذكّر حقاً؟
ذاكرة
عاشتْ ذاكرة المجتمع السوري مراحل مختلفة من التّشويه منذ بداية حقبة الأسد الأب، حافظ الأسد، في عام 1970 حتى لحظات الثورة الأولى في 2011 وإلى اليوم. خلال طفولتي ومراهقتي في سوريا لم اعتد على سماع أيّة إجاباتٍ وافيةٍ على أسئلتي، فقد كانت الإجابات محكومةً بسياسات الذّاكرة الجمعيّة، التي حاكتها نظريّات المؤامرة على الأمّة والقضيّة.
يُنسَب مفهوم الذّاكرة الجمعيّة إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبڤاكس (1877 ــ 1945) وقد اعتمد من خلاله تفسير فهم الأفراد للماضي وصلاته بالحاضر، ضمن عوامل محيطهم المجتمعي، ليصبح تكوين الذّاكرة والماضي الفرديين نتاج عوامل يوفّرها المحيط، مثلاً من خلال التّفاعل مع الآخرين واللغة والمكان والزمن بأبعادها السياسيّة. والذّاكرة الجمعيّة تمثل بدورها منظومةً تحوي جزئيّاتٍ منتقاةٍ من مجموع ذاكرات الأفراد، تترتب لتحكي ماضياً يتناسب مع واقعهما الحالي.
حين أنظر الى سوريا الآن، يراودني سؤالٌ ليس بجديدٍ: كيف لنا أن نقاوم الحاضر في حضرة الصّراع الدّائم مع النّسيان والتناسي والتشويه؟ وذلك ليس على مستوى المجتمع السّوري في الدّاخل والخارج فحسب، بل دولياً وعربياً.
هل من المسموح لنا أن نتذكّر وأن نسمّي الأمور بمسمّياتها؟
ترتكز انطباعاتي عن الدّاخل السّوري على التأييد السّاحق الذي شهدتُه بين أهالي السّاحل السّوري لبشار الأسد. بعضهم من الجيرة والأقارب، وبعضهم من رفاق وزملاء مقاعد الدّراسة. ما بين النّقد والتّذمر من أوضاع المعيشة المتدهورة أبداً، تأتيك عبارات الولاء و الرّمادية على الدّوام. لكن المثير للاهتمام هو تعميم القناعات: نحن الأفقر، نحن الأضعف، نحن الخاسر الأكبر، نحن المستضعفون في هذه المعادلة. وبين الفينة والأخرى، تأتيك عبارات بعض من نكّل بهم الأسديّون، متردّدة تصوغ أفكاراً وطلاسم من دون معاني: الله يساعد الناس.
كلٌّ يتذكّر ما يحلو له ويريح ضميره من تنغيصات الواقع أو من تحمّل المسؤوليّة تجاه ذاته والآخرين من حوله. السلبيّة السّياسيّة ليست الطابع الأول في سوريا، بل إنّه الخوف. الخوف والرّغبة في الخلاص من هذا الخوف هما محركٌ باطنيٌّ لحركات وسكنات الشعب. إمّا أن تكون جزءاً من جهاز الخوف أو من المتمردين على الخوف والخائفين! ثنائيّةٌ تتناسب مع بروباغندا النظام وأتباعه: الأسد أو نحرق البلد. في هذه العبارة اختبأت التهديدات الأولى – على الرغم من جديتها – أو قُوِّضت في الرواية الرسمية للنظام عن مكافحة الإرهاب: فانتازيا من العصور الوسطى عن حرق الأرواح الشريرة التي تعكر صفو المملكة المنيعة.
أما الآن فها قد هرب الأسدهم وسوريا لا تزال جريحة. لكننا لم نهزم بعد.
الذاكرة الهامشيّة
قبل أو بعد السجن؟! أجاب قريبي مُدرّسةَ الرّوضة على سؤالها عمّا يريد أن يصبح في المستقبل. بعد سنوات قليلةٍ لاحظت أن هذه الذّاكرة العائليّة لم تعد موجودة لديه وكأنّ الصّمت المطلق قد حلّ مكانها. الذّاكرة الجمعية الأسديّة يحكمها الخوف من المجهول وسردياتٌ تشبه أفلام الأبطال الخارقين، يلعب فيها نظام الأسد دور البطولة على اعتباره القوة الوحيدة القادرة على مواجهة الامبريالية. وهكذا ليعزز فكرة أن أيّ تغييرٍ لا بدّ أن يكون جزءاً لا يتجزّأ من تلك الإمبريالية – التي تُهدّد سوريا – والتي ستؤدي حتماً إلى تدمير الأمة.
الذاكرة الأسدية جعلت من صيحات الحريّة في شوارع البلد علامةً دالّة على هيمنة الغرب ومن التبعية لهام إشارةً من إشارات معسكر المقاومة و الصمود. هذا التشويه تجاوز حدود ايديولوجيا النّظام وإعلامه، كاشف المؤامرات، ليصبح فلسفةً حياتيّة يمكن معايشتها عن قرب في سوريا وكأنّها نُقشت على حمضنا النووي. حتى صغار صغارنا عاشوا ضمن هذه الذّاكرة يندبون خصماً لم يعرفوا منه سوى حكايات مدرّسي ومدرّسات مادة التّربية القوميّة أو لاحقاً التّربية الوطنيّة كما تمّ الاتّفاق على تسميتها. الآباء والرفاق أطلقوا على معتقلاتهم كود الأوتيل واختبأت بين تسمياتهم المستعارة سيرة الذّاكرة الهامشيّة.
من عادات المجتمع السوري، التّابعة لسياسات الذّاكرة الأسدية، السخرية من الألم وتجاهله إن لزم الأمر، وإن كان طابعه الحتميّ سياسياً. خلال سنوات غربتي الأولى لاحظت أن ردّ الفعل الوحيد لمعظم من التقيت بهم من أبناء جيلي كان المزاح غير المفهوم، أو السّخرية في حال الحديث عن تجربة السجن في أوساطنا العائليّة. نظراتٌ عديدة لاحقتني وغيري، غير مصدّقةٍ، عندما كنت استرسل بالحديث عن الوصمة المجتمعية التي عايشتها قبيل الثّورة مع عائلتي التي ضمّتْ معتقلين سياسيّين سابقين. نحن أبناء ذات الوقت ومعاصريه لسنا قادرين على التّذكر أو التّصديق. حالةٌ من الرّفض الداخلي تعمّ بيننا وكأنّ ذاكرتنا ألغت وجود ما سبقنا. في مراهقتي كنت أبحث عن تعليلاتٍ لخوفنا وصمتنا، حيث كان الخوف ومازال أكبر من الذّكرى والتّذكر. ولكن ما السبب الآن؟ هل هذه مجرد ردّات فعل؟
انتهى الأبد
في آذار 2011 رددت أصوات الجارات ذات العبارات: كل عمرنا عايشين سوا وما كان في مشاكل. لطالما سألت نفسي من هم هؤلاء الذين عاشوا بسلام؟ و كيف كانت حياتهم هذه من دون مشاكل؟ وأيّة مشاكل؟ وأنا غير قادرٍ على تذكّر أيّ تفصيلٍ إلّا ليقودني إلى قصص السجون والمراقبة المستمرّة وكلمات الاعتداء.
اسأل نفسي عن آلاف القتلى في مجازر حماة 1982، عن إقصاء الكورد عن السّرديات السّورية، عن المهجّرين في أنحاء العالم وخيم اللجوء، عن المغيّبين قسراً حتى الآن أو من غيّبتْهم قسوةُ المعتقل عن المشاركة في تفاصيل الحياة حتى بعد الإفراج الشكليّ، وعن كل من التزم سياسة الانكفاء على الذّات والرّفض بصمتٍ أو بصخب.
كل هذه الحكايا تلفظها الذّاكرة الجمعية الأسدية ومَن تأثّر بها لتحكي قصص القائد مشيّد السّدود وحامي الثغور، وجنوده ضحايا المخرّبين والإرهاب، أو قصص ثورةٍ لم يكن لها ماضٍ معروف. حتى مصطلح الإرهاب لم يعد له معنىً واضحٌ في المعادلة السّورية، وذلك ليس بسبب عدم صحّته بل بسبب تعدد مصادره وأسبابه. وعلى سبيل الصّراحة لم يتوانَ النّظام عن احتلال المراتب الأولى في الإرهاب والقتل والتّدمير، مستخدماً مفاصل الدولة وميليشياته الدّاعمة، وحتى معونة روسيا وإيران.
الذّاكرة المضادة
سياسات الذّاكرة في الدّاخل السّوري تنتفض كل حين، ولا يمكن حصرها بسرديّاتٍ محدودةٍ دون أُخرى. حيث أنّ تنوّع المشهد السّوري، في المنحى السّياسي والدّيني والإثني، يعني تنوّع مشاهد القمع وسرديّاته. ولكنّ ذلك كلّه لا يمكن أن يغيّر من سرديّة النّظام القمعي، التي يتمّ اقصاؤها باستمرار من ذاكرة الحاضر. ذاكرةٌ تنسى مشاهد العنف، وتبرر حتى آليات القمع التي مارسها النظام ذاته.
ويمتد هذا الإقصاء أحياناً إلى خارج سوريا، ليطال الكثيرين خارج البلاد ومن مختلف الأطياف السّياسية، حيث تتنافس الرّوايات على اختلافاتها وتطغى على الذّاكرة السّياسية والثّورية في السّياق السّوري. لذا، فإنّ الذاكرة المضادة ضرورةٌ لا بدّ منها، تختبئ في أسئلة الأطفال وصيحات المظاهرات. وهنا يوفر نهج المقالة أو ما يعرف بالمقاليّة Essayism أداةً مرنةً لبناء هذه الذاكرة المضادة، فهو بطابعه التأمليّ والاستكشافيّ يمزج بين وجهات النظر الشخصية والاجتماعية والسياسية والتحليلية، التي أراها اليوم ضرورةً لتكوين هويتنا الجمعية.
توجد ذاكرةٌ حيّةٌ تقاوم الجمود، قد كبتتْها أيديولوجيّة نظام الأسد بشكلٍ متقطّعٍ، فقط لتشقّ طريقها من جديدٍ في محاولاتٍ يائسةٍ. ومع سقوط الأسد اليوم، لا يمكننا إنكار كون ذلك تمرداً كاملاً على شتّى سرديّات نظامه وعلى توقّعات الأطراف السّياسية المتعدّدة في سوريا. أيضاً، نواجه اليوم تحدياً إضافيّاً في تكوين دورنا الفعّال في مواجهة القوى الخارجيةالإمبريالية المتدخّلة في شؤوننا، من دون أن تعمينا نشوةُ التّغيير عن الواقع. من الأكيد أننا لا يمكننا وضع ثقتنا الكاملة في الأطراف التي لعبت أدواراً وحشيّة في الحرب التي شُنّت على أجساد الثّورة. ومع ذلك، يبقى الحفاظ على الأمل واجبنا الأخلاقي للحشد والتّنظيم، وضمان تحقيق تغييرٍ سياسي للجميع.
كُتب هذا النص قبل فبراير 2025.
النص جزء من ملف “أبدٌ يتفكك“، من تنسيق فيرونيكا فيريري وإنانا عثمان.
الملف ثمرة تعاون بين “Archivwar” و”Untoldmag” و”Arabpop“
التنسيق البصري: غريغ أولا
حصل هذا المشروع على تمويل من برنامج الاتحاد الأوروبي “هورايزون أوروبا” للبحوث والابتكار، في إطار اتفاقية منحة “ماري سكلودوفسكا-كوري” رقم 101064513 تحت عنوان:
“ARCHIVWAR – الأرشيف في زمن الحرب: عائلات متفرقة وماضٍ يتلاشى في سوريا المعاصرة”، بتمويل من الاتحاد الأوروبي.
الآراء والمواقف المعبر عنها في هذا المشروع تعود حصريًا للمؤلفين ولا تعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي أو الوكالة الأوروبية التنفيذية. ولا يتحمل الاتحاد الأوروبي ولا الجهة المانحة أي مسؤولية عنها.