منذ السابع من أكتوبر 2023، تتعرض الجالية الفلسطينية في ألمانيا، ولاسيما في برلين، لموجة قمع متصاعدة تطال احتجاجاتهم، ورموز ثقافتهم، وأصواتهم، وحتى سرديتهم. أعاق هذا القمع بشكل كبير قدرتهم على التعبير علانية عن حزنهم وغضبهم تجاه قصف إسرائيل لقطاع غزة، والذي تصفه محكمة العدل الدولية بأنه “حالة ممكنة من الإبادة الجماعية”.
لا يحرم حظر الاحتجاجات الفلسطينيين من حقهم في التعبير الحر والتجمع السلمي فحسب، بل يُمثل أيضًا محاولة للسيطرة على السرد والتمثيل العام لفلسطين وحياة الفلسطينيين في ألمانيا. وعلى الرغم من ازدياد هذا القمع منذ السابع من أكتوبر، إلّا أنّه جزء من سياسة تاريخية تهدف إلى محو وإضعاف ومحاربة الوجود الجماعي والهوية الفلسطينية في ألمانيا، من خلال القمع والرقابة والتمييز.
إسكات الأصوات الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر
كانت ردود فعل حكومة برلين والشرطة على الاحتجاجات التضامنية مع الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر، وتحديدًا في الأسابيع الأولى، قاسيًا بشكل ملحوظ. فقد حظروا التجمعات بالكامل أو لجأوا إلى إجراءات عدوانية للسيطرة عليها. بين 11 و20 أكتوبر فقط، سجّل مركز الدعم القانوني الأوروبي (ELSC) 600 حالة اعتقال أشخاص تضامنوا مع فلسطين في برلين، بما في ذلك القاصرين، إلى جانب سلسلة من الإجراءات الجنائية والإدارية. وفقًا لمنظمة حملة من أجل ضحايا عنف الشرطة العنصري (KOP)، وَثّقت فيديوهات مختلفة مدى وحشية الشرطة، حيث ظهر استخدام رذاذ الفلفل، ونشر الكلاب البوليسية، والاعتداء الجسدي، مما أدى إلى وقوع العديد من الإصابات.
على سبيل المثال، في يوم السكان الأصليين، 12 أكتوبر 2023، نظم تحالف متنوع من المجموعات المناهضة للاستعمار، بما في ذلك المجموعات الأصلية، والسود، والمثليين، والنسوية، احتجاجًا مناهضًا للاستعمار أمام وزارة الخارجية في برلين. تدخلت الشرطة بقوة وفرّقت المظاهرة، مستهدفة بشكل خاص حاملي الأعلام الفلسطينية، لأنه على حد تعبيرهم، “لا علاقة لفلسطين بالاستعمار”. رفض منظمو الاحتجاج استبعاد المتضامنين مع فلسطين من احتجاجهم المناهض للاستعمار، مما أدى إلى رد الشرطة العنيف. وقد أسفر ذلك عن اعتقال عنيف لحوالي عشرة أشخاص فقط لحيازتهم أعلامًا ولافتات مرتبطة بفلسطين.
فالتنميط العنصري، والاستجواب، والاعتقالات غير القانونية للذين يرتدون الكوفية في نويكولن، وهو حي يضم جالية فلسطينية كبيرة، تُمثّل مـظاهر مختلفة للعنصرية الموجهة ضد الفلسطينيين، والعرب، والمسلمين، التي تُوجه هذا القمع. فالوجود المكثف للشرطة والعنف الذي تركّز في حي نويكولن ليسوا مصادفة، حيث يُعتبر تجريم الأماكن المهاجرة ووصم الأشخاص ذوي الأصول العربية أو التركية أو الكردية ممارسة شائعة.
وثّق مركز الدعم القانوني الأوروبي (ELSC) 202 حالة من قمع النشاط السياسي، ومن بينها 68 حالة تهديد بالإجراءات القانونية، مثل شكاوى الحقوق المدنية الإدارية، بالإضافة إلى 57 حالة من المضايقة والتخويف، أو العنف الموجَّه ضد الأفراد أو المجموعات التي تدافع عن حقوق الفلسطينيين، و39 حالة تضييق على حرية التنقل، حيث مُنع الوصول إلى مواقع معينة أو استخدامها. كما وُثّقت 20 حالة تعطيل للفعاليات المتعلقة بفلسطين نتيجة لتدخل جسدي من قبل أفراد أو مجموعات.
لا يقتصر قمع الفلسطينيين على الشوارع والمساحات العامة في البلاد فقط، بل يتسلل إلى الساحة السياسية، والمؤسسات الرسمية، والمجتمع المدني، والمؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام على نطاق واسع.
وفي خطوة مثيرة للجدل بشكل خاص، أصدرت إدارة مجلس الشيوخ في برلين، في منتصف أكتوبر، رسالة إلى المدارس في المدينة، تُتيح لها حظر إظهار الرموز الفلسطينية، بما في ذلك الكوفية وشعارات “فلسطين حرة“. تحمل الكوفية، الوشاح التقليدي الفلسطيني، أهمية ثقافية هائلة وتُعتبر رمزًا تاريخيًا للمقاومة ضد استعمار الأراضي وقمع الشعب الفلسطينيين.
في 21 ديسمبر 2023، قررت الإدارة الثقافية لمجلس الشيوخ في برلين أن منح التمويل الثقافي سيكون خاضعًا لشرط توقيع المتقدمين على بند معاداة السامية. يَستخدم هذا البند تعريف معاداة السامية المثير للجدل والإشكالي قانونيًا الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة ووسّعته الحكومة الألمانية، مما يتيح تصنيف أي انتقاد لسياسة الحكومة الإسرائيلية على أنه معاداة للسامية، وبالتالي، استبعاده. لكن استجابةً لضغوط الفنانين والعاملين في مجال الثقافة المتزايدة، ألغى المجلس البند بعد شهر واحد من طرحه.
تواجه المؤسسات الثقافية والأكاديمية والتعليمية ضغوطًا متزايدة لإسكات الأصوات الفلسطينية أو المتضامنين معها. يعكس إلغاء حفل تكريم رواية “تفصيل ثانوي” لعدنية شبلي، الحائزة على جائزة الأدب الألمانية “ليبراتور” لعام 2023، محاولة أوسع لخنق الأصوات الفلسطينية في المجالات الثقافية والفكرية. حيث استخدمت عدة مزاعم باطلة عن معاداة السامية، أو معاداة السامية الخفية، أو التحجّج بأن موضوع فلسطين يُعتبر “حساسًا جدًا“، “معقدًا جدًا” أو “غير مناسب في هذا الوقت“، لعرقلة التضامن الفلسطيني والتعبير عنه وكبت أصوات الفلسطينيين ورواياتهم في المجال الثقافي.
سجّل مركز الدعم القانوني الأوروبي (ELSC) 139 حالة من القمع الثقافي، والتي تتضمن 38 حالة منع دخول إلى بعض الأماكن أو إلغاء الفعاليات، و35 حالة من حملات التشهير، و8 حالات حيث هدّد بسحب التمويل بسبب التعبير عن التضامن مع فلسطين. وقد انتُهِكت الحرية الأكاديمية في 17 حالة، مما يقيّد قدرة العلماء والباحثين وأعضاء هيئة التدريس الأكاديمية على مشاركة البحوث والمعلومات والأفكار المتعلقة بفلسطين وإسرائيل بحرية. بالإضافة إلى ذلك، تعرّض 15 فردًا أو مجموعات لشكاوى رسمية بناءً على اتهامات واهية بمعاداة السامية بسبب مناصرتهم أو التعبير عن دعمهم لحقوق الفلسطينيين من خلال منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، أو خطابات في الاحتجاجات، أو عبر البودكاست، أو في الأدب، أو المحاضرات. كما سجّل مركز الدعم القانوني الأوروبي 26 حالة فصل أفراد أو تعليقهم عن العمل بسبب دعمهم الصريح لفلسطين. لا يقوّض هذا التخويف، والرقابة، والإسكات في المؤسسات الثقافية والأكاديمية وخارجها الحقوق الأساسية لحرية التعبير والحريات الأكاديمية فقط، بل يمنع أي مساحة ذات معنى للتفكير النقدي، والتعلم، والنقاش حول إسرائيل/فلسطين.
إن قمع ورقابة وإقصاء الفلسطينيين في ألمانيا ليس مجرد رد فعل على أحداث السابع من أكتوبر. بل يجب فهمه في سياقه التاريخي، حيث لم تحاول ألمانيا قمع أصوات الفلسطينيين بشكل مستمر فحسب، بل انخرطت في العديد من الممارسات والاستراتيجيات لمحو فلسطين والحياة الفلسطينية في ألمانيا.
المحو المنهجي
تطورت الجالية الفلسطينية في ألمانيا بشكل كبير منذ تركيبتها الأولية المكونة من الطلاب والعمال واللاجئين من لبنان والمنفيين السياسيين. اتسعت هذه الفئة على مر السنين، لتصبح إحدى أكبر الجاليات الفلسطينية في أوروبا، حيث يُقدر عدد سكانها بـ 250,000 نسمة. ويُعتقد أن برلين وحدها تضم ما يتراوح بين 35,000 و 45,000فلسطيني.
ومع ذلك، من المتعذر تحديد الأرقام بدقة لأن الجنسية الفلسطينية غير موجودة في الإحصاءات الرسمية الألمانية. نظرًا لعدم اعتراف ألمانيا بفلسطين كدولة ذات سيادة، فإن الفلسطينيين غالبًا ما يُصنفوا تحت أوضاع مختلفة. لذا تنوعت تصنيفاتهم في ألمانيا، بما في ذلك تسميات مثل اللاجئين والأشخاص عديمي الجنسية، أو الأشخاص من دون جنسية محددة. بالإضافة إلى ذلك، فإن سجلات هجرتهم غالبًا ما تربطهم ببلدان عبورهم مثل لبنان وسوريا أو الأردن، بدلاً من تراثهم الفلسطيني. ناهيك عن الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، والذين عادة ما يُسجّلوا كإسرائيليين، أو أولئك الذين يحملون الجنسية الألمانية أو الأوروبية.
ونتيجة لذلك، تشير الأرقام الرسمية إلى وجود فقط 6,315 فلسطينيًا في ألمانيا حتى عام 2022، ومن الجدير بالذكر أيضًا أنه في العام نفسه، اختفت الفئة الوطنية “الأراضي الفلسطينية” من التقارير الإحصائية للسكان الأجانب في ألمانيا.
ولا يحجب هذا التصنيف الغامض للفلسطينيين في ألمانيا البيانات والمعرفة الدقيقة حول حياتهم في ألمانيا، بل يساهم أيضًا في إقصائهم وتهميشهم التاريخي والمنهجي. فسياسة المحو التي تجعل الفلسطينيين غير مرئيين، تُلغي هويتهم الجماعية ووجودهم، وتُزيّف تاريخهم وآلامهم وإنجازاتهم وأهميتهم في التاريخ الألماني.
تاريخ طويل
لذا يُعتبر فهم المقاومة الفلسطينية المستمرة في ألمانيا أمرًا محوريًا، خاصة في سياق تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964. فقد لعبت منظمة التحرير الفلسطينية، التي عملت بشكل أساسي في مراكز الشتات، دورًا حاسمًا في المشروع الوطني الفلسطيني. وكانت ألمانيا قاعدة مهمة لها، حيث عاش ودرس مؤسسون رئيسيون مثل هاني الحسن وعبد الله الأفرنجي هناك. في الواقع، كانت شبكات الطلاب والمهنيين والعمال الفلسطينيين في ألمانيا جزءًا لا يتجزأ من البنية العالمية لمقاومة منظمة التحرير الفلسطينية.
ومع ذلك، عاش الفلسطينيون في ألمانيا لفترة طويلة دون أن يلاحظهم الجمهور الألماني فعليًا. تغير هذا مع الهجوم على الفريق الإسرائيلي في دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ في خريف عام 1972، حيث أصبح الفلسطينيون شخصيات مرئية بشكل كبير، وتجسيدًا للإرهاب، والتهديد، والشك. نتيجة لذلك، فرضت وزارة الداخلية قيودًا مشددة على تأشيرات الدخول من الدول العربية، وقرر وزراء الداخلية في الولايات الاتحادية تسريع عمليات ترحيل الفلسطينيين، مما أدى إلى إصدار مئات أوامر طرد مواطنين من الدول العربية دون أساس قانوني. كما حُظر اتحاد الطلاب الفلسطينيين (UPS) والاتحاد العام للعمال الفلسطينيين (GUPA) في ألمانيا.
وقد واجه الفلسطينيون الناشطون سياسيًا المزيد من المراقبة والاستجواب، مما شكل تحولًا كبيرًا في النظرة اليهم ومعاملتهم في ألمانيا الغربية. خلق القمع والعنف ضد الفلسطينيين في السبعينات مناخًا من الخوف والسيطرة، مما أجبر العديد على إنكار هويتهم الفلسطينية أمام العالم الخارجي، من أجل تجنب التمييز، أو الاضطهاد، أو الاستبعاد.
وكما تقول سارة البلبيسي، الباحثة التي درست الجالية الفلسطينية في ألمانيا، إن استعمار فلسطين، ومحاولة محو الحياة والمجتمع والهوية الفلسطينية، ما زال مستمرًا في ألمانيا من خلال العنف الرمزي المتجسّد في التمييز، والرقابة، والاضطهاد، والمراقبة. وتشير إلى أن “المحرمات قوية جدًا، بحيث تصبح تجربة العنف التي يعاني منها الفلسطينيون أمرًا مُدانًا اجتماعيًا، لا بل حتى كونهم فلسطينيين يُصبح في حد ذاته إدانة”.
العنصرية والاستشراق
وقد ظهر جليًا ما تتحدث عنه البلبيسي في السنتين الماضيتين، عندما حظرت الشرطة في ألمانيا بشكل متكرر إحياء الذكرى الجماعية والحداد في الأماكن العامة.
بالنسبة للفلسطينيين، تُمثل النكبة تدمير فلسطين التاريخية والتطهير العرقي وطرد الشعب الفلسطيني الدائم، مما أثمر عن ذاكرة جماعية للخسارة والتهجير وبداية النضال المستمر في سبيل الدولة والحقوق. بالنسبة للشتات الفلسطيني، لا يشكل الحداد الجماعي وسيلة فقط للتعبير عن الحزن المستمر، لكنه أيضًا عملية شفاء وتذكر وترسيخ مجتمع في المنفى.
في مايو 2022، تلقى منظمو فعاليات إحياء ذكرى النكبة في برلين رسالة من الشرطة المحلية، تحظر جميع الأنشطة المخطط لها من 13 إلى 15 مايو. ووفقًا لتصريحات احدى الجمعيات المنظمة، “فلسطين تحكي“، برّرت شرطة برلين حظرها بحجتين: أولًا، أن الشتات الفلسطيني و”الجاليات المسلمة (…) من اللبنانيين والأتراك والسوريين في الشتات (…)، وتحديدًا الشباب والبالغين، هم متوترون ومنفعلون إلى حد كبير”، وثانيًا، يمكن أن تشكل فعاليات إحياء ذكرى النكبة تهديدًا محتملًا للسلامة العامة.
وبالتالي، تبني الدولة الألمانية والشرطة تهديدًا استشراقيًا يجمع بين العنف والعاطفة ومعاداة السامية في صورة “الشباب العرب/ المسلمين الغاضبين”، الذي ينشأ جنبًا إلى جنب مع مخيال الذات الألمانية العقلانية التي نجحت في التخلص من معاداة السامية والعنف.
فكما أشار إدوارد سعيد: “إن فكرة وجود ثقافة مميزة […] تتورط دائمًا إما في تهنئة النفس (حين يناقش المرء ثقافته هو) أو العداوة والعدواني (حين يناقش ‘الآخر’)” (ص325.)
بعبارة أخرى، يعتمد بناء الذات الألمانية المسالمة والمتسامحة والمعادية للسامية على تصوير متناقض “للآخر” الاسلامي/العربي العنيف وغير المتسامح والمعادي للسامية. يعمل هذا الإطار الثنائي على حجب الأصول التاريخية والأصلية المعقدة لمعاداة السامية ومظاهرها المعاصرة في ألمانيا، لا سيما أنه في عام 2022، شكّل التطرف اليميني 84 في المئة من الجرائم المعادية للسامية.
ترى سارة أحمد أن هذا المفهوم من التهديد المحتمل، أو “القابل للوجود”، يخلق خطر مبهم وغير متعلق بأفراد محددين، ومع ذلك، “يلتصق الخوف بهذه الأجساد (وبأجساد ‘الدول الشريرة’) من احتمال ‘أن يكون’ إرهابيًا” (ص. 135). يصبح الخوف من “احتمال أن يكون عربيًا أو مسلمًا إرهابيًا أو معاديًا للسامية” أداة قوية تُستخدم لإضفاء الشرعية على التدابير الأمنية، والسيطرة على التنقل، وتبرير الروايات المشحونة عنصريًا في الخطاب والسياسات والممارسات الإعلامية في البلاد.
الآخر الضروري
أعادت هجمات السابع من أكتوبر إشعال هذا السرد الاستشراقي في الخطاب الإعلامي والسياسي، بحجة أن ألمانيا لديها مشكلة مع “معاداة السامية المستوردة“، التي يُزعم أن اللاجئين والمهاجرين، خاصة من البلدان الاسلامية أو ذات الأغلبية العربية، قد جلبوها معهم إلى البلاد. سرعان ما طالب السياسيون الألمان من مختلف الاطياف السياسي بـ “ترحيل جماعي كبير“، أو فرض قيود على المواطنة والهجرة.
على سبيل المثال، استُخدمت عبارات دعم القضية الفلسطينية كمبرر لرفض تجديد تصاريح الإقامة. بالإضافة إلى ذلك، تُحدّد مسودة قوانين التجنيس الأخيرة المواقف المعادية للسامية كأساس للاستبعاد، بينما تنصّ أيضًا على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كشرط أساسي.
ويدعو نائب المستشار الألماني روبرت هابيك والرئيس فرانك فالتر شتاينماير الألمان من أصول إسلامية وعربية علناً إلى إظهار “ولائهم” من خلال إدانة عنف حماس، وتحميلهم المسؤولية الجماعية عن أفعال لا تخصهم.
يحدث هذا اللوم الجماعي في وقت يحتل فيه حزب اليمين المتطرف الألماني “البديل من أجل ألمانيا” (AFD) المرتبة الثانية في استطلاعات الرأي الحالية، وهو حزب يهدف قادته علنًا إلى حكم موجه نحو عنف النازية القومية.
وهذا ليس مجرد وصم يستهدف هذه المجتمعات، بل هو عنصرية تعمل كجزء من هيكل وتاريخ أكبر. هذه المعارضة الثنائية أساسية بالنسبة لتشكيل الهوية الألمانية، حيث يعتمد الفهم العرقي القومي التاريخي للأمة على فصل واضح بين “المواطن الأصلي” و “الآخر”، مما يحوّل دومًا المجتمعات المهاجرة لغرباء أبديين.
بالنسبة للمسلمين وأولئك الذين يُصنفون على أنهم مسلمون، فإن الاستبعاد والتمييز والوصم، وأحيانًا العنف الجسدي، هم جزء من الحياة اليومية. منذ 7 أكتوبر، لاحظ التحالف المناهض لمعاداة الإسلام والمسلمين ارتفاعًا مقلقًا في الحوادث المعادية للمسلمين في ألمانيا، حيث وثّق 187 حالة عنف واعتداءات لفظية وتهديدات وتمييز ضد المسلمين بين 9 أكتوبر و29 نوفمبر 2023.
التحدي الدائم
القمع المستمر والتهميش وإلغاء الجالية الفلسطينية في ألمانيا، خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر، يشير إلى صراع تاريخي أوسع من أجل الاعتراف الجماعي والحقوق الأساسية.
على مر التاريخ، واجهت محاولات الدولة الألمانية لمحو وجود الفلسطينيين وحضورهم وأصواتهم وسردهم في البلاد تحديًا من خلال تعبئة قوية من التضامن والمقاومة. في السبعينيات، أدى حظر الجمعيات الفلسطينية وموجة الترحيلات إلى إشعال حركة تضامن يسارية تدعو إلى حماية حقوق المهاجرين في ألمانيا الغربية.
على عكس آبائهم، وردًا على العنف الرمزي المتزايد، يقوم الجيل الثاني من الفلسطينيين في ألمانيا بإعادة امتلاك تاريخهم وهويتهم المفقودتين، واستكشاف قصص عائلاتهم، والمشاركة في النشاطات النضالية لاستعادة حضورهم وتعزيز السرد الفلسطيني الذاتي في البلاد. فأزمة إدارة اللاجئين في عام 2015 جعلت من برلين مركزًا للمجتمعات العربية والتعبير الثقافي، ممّا مكّن الجيل الثاني من الفلسطينيين من التواصل مع فلسطينيين عرفوا سياقات ثقافية واجتماعية وسياسية مختلفة.
شهدت الأشهر الأخيرة أيضًا أعمال مقاومة وتضامن كثيرة. نُظّمت مظاهرات من قبل جماعات تُركز على القضية الفلسطينية ضمن نضال أوسع من أجل إنهاء الاستعمار والعدالة والتضامن العالمي. تنوعت الوسائل، من المظاهرات العفوية والاعتصامات الجماهيرية والاحتجاجات التي يقودها الطلاب والمداخلات الأدائية في الجامعات، إلى ارتداء الكوفية كرمز للمقاومة.
عبر شوارع برلين، يمكن العثور على ملصقات وجرافيتي ورسومات للأعلام والشعارات، تسترد الأماكن العامة والحضور الفلسطيني وتتحدى السرديات السائدة والمحو التاريخي. كل يوم تقريبًا، تُعقد دورات تعليمية، ونقاشات مجتمعية، وعروض أفلام، أو عروض موسيقية ورقص، تجلب الثقافة والتراث والتاريخ الفلسطيني إلى الفضاء العام في المدينة.
من استعادة الرموز الثقافية إلى حركات التضامن والتظاهرات العامة، تشير أفعال المقاومة هذه إلى وعي جماعي متزايد بين الفلسطينيين في ألمانيا. يتحدى الفلسطينيون السرديات السائدة وعمليات المحو التاريخي ويشقون طريقًا نحو استعادة مساحتهم وسردهم ووجودهم. كما أشارت المخرجة الفلسطينية باري القلقيلي في خطابها في تظاهرة التحالف النسوي الأممي ضد العنف الجنساني في 25 نوفمبر 2023:
“نحن، الفلسطينيون هنا في برلين، نحن بنات وأبناء وأحفاد الناجين من النكبة! الفلسطينيون، سواء في فلسطين، أو لبنان، أو الأردن، أو سوريا، أو في الشتات، كنا شهودًا على النكبة المستمرة لأجيال! لكننا لطالما تمكّنا من النهوض من جديد! وهنا، في برلين أيضًا، نهضنا مرارًا وتكرارًا، عندما حرمونا من التعليم والعمل، وأصدروا عمليات الترحيل، وحظروا جمعياتنا، وصادروا مساحاتنا، وجرّموا احتجاجاتنا، واعتقلونا وهددونا بالترحيل. نحن الفلسطينيون، نهضنا مرة بعد مرة، وما زلنا نفعل ذلك اليوم.”