‘أنت الطريق الذي أدخل عليه وأنظر حوله,
أعتقد أنك لست كل ما هو موجود هنا,
أعتقد أن الكثير من اللامرئي هنا أيضاً’
والت ويتمان
الثوم المثلث – ALLIUM TRIQUETRUM
نحن في نهاية شهر نيسان، وبينما نتسلق السلالم الخشبية في غابة هين في جنوب شرق انجلترا، تستيقظ الحياة في الغابة من سباتها بانفجار من الألوان والأصوات والروائح.
يرافقني شخصان آخران في هذه المرحلة الأخيرة على درب الحج. رشيقة، التي تحصد النباتات البرية وتستخدمها في العلاجات الطبية. لذا، في غضون دقائق من بدء رحلتنا، تجدنا نجلس معًا ونمضغ أوراق الكراث الثلاثي الزوايا، ونجمع أوراق الخردل الثومي لتناول الغداء. أنحني نحو الأرض، وحواسي تنغمس في عمق النباتات الأرضية. ثم أقف مستقيمًا مرة أخرى، وتتكيف عيناي مع مجموعة متنوعة من المناظر الطبيعية. تبدو الغابة، على الرغم من صغرها، فجأة واسعة وثرية. نتجاوز بوابة خشبية وندخل حقولًا مفتوحة تحت أشعة الشمس المشرقة. ألتفت نحو السماء وأستشعر الدفء الذي يغمرني. يمكنني سماع صوت الغربان وهي تعق على أعشاشها في الجانب الآخر من الحقول. وعندما تقترب سيارة، يزداد صوت العق حتى يتلاشى تدريجيًا عندما تمر السيارة. وهكذا، تتواصل الأصوات وينتقل اهتمامي إلى مكان آخر. إنها سمفونية برية لن يستطيع السائقون التعرف عليها تمامًا.
نبات اللبلاب الأرضي – GLECHOMA HEDERACEA
نتوقف ثانية لأخذ قسطاّ من الراحة، نستمتع بالطقس الجميل، والمشي السهل، والحقول الوفيرة وروح الحجاج المرحة. أقوم بتحريك كفة من اللبلاب الأرضي في إبريق صغير. بينما ينتشر هذا الشراب المخمّر ذو النكهة الترابية في جسدي، تتشكل كلمة “التجدد” في وعيي، كموشور ضوئي يمكنني من خلاله التطلع إلى محيطي وربما، إذا تم توجيهه بشكل صحيح، إلى بركة وعيي المظلمة.
كلمة ‘التجدد’ تتجسد كورقة سقطت على سطح الماء، و الإحساس بها يتحرك بهدوء نحو الخارج.
التجدد كما البحث عن قصص جديدة الذي جاء بي إلى هنا، كما الأنماط المتحولة للحزن الذي رافقني في السنوات الأخيرة، كما زهور المواسم التي تتفتح حولنا، وسحرالطبيعة الذي يتجلى عندما نمشي فيها، التجدد كما إعادة الإحياء الثقافي بعد خروج انجلترا من الاتحاد الأوروبي، و كما نافذة لإعادة ضبط الأولويات التي جلبتها جائحة كورونا، وكما تحول نظامي من الحداثة إلى ما هو غير معروف.
التجدد كفعل الحج ذاته، نضع قدما خلف الاخرى حتى نصل إلى الهدف النهائي، الذي في الحقيقة هو مجرد بداية لرحلة جديدة.
لسان الجمل الكبير – PLANTAGO MAJOR
جلبت رشيقة معها خلطة خاصة بالحج من الميرمية والهفوف والقراص ( mugwort, plantain, and nettle). بالإضافة إلى فوائد هذه النباتات المتمثلة في تحسين الرؤية (الميرمية) ومكافحة التهاب الجلد (الهفوف) ومساعدة الدورة الدموية (القراص)، فهي أيضًا ثلاث من الأعشاب المذكورة في تعويذة الشفاء الإنكليزية القديمة المكونة من تسع نباتات والمعروفة باسم “Nine Herbs Charm ”
– mucgcwyrt
وwegbrade و .netelan. كان يُعرف لسان الحمل الكبير باللغة الإنجليزية القديمة باسم “طعام السبيل” لأنه ينمو بشكل جيد على الطرق المسلوكة، والنص يشير إليه بالشكل التالي:
وأنتَ، يا طعام السبيل، يا أم النبات!
أنتَ مفتوحٌ نحو الشرق، ولكنك قويٌ في الداخل:
العربات تصطك عليك، والنساء يمرون فوقك،
وفوقك يصدح صوت العروس، وفوقك يزمجر الثيران!
لقد تحملت كل شيء، وقمت بالتصدي له:
تحملت السم، وتحملت أمراض الهواء،
تحملت رعب الذي يسافر فوق الأرض.
ادهشني جداً كيف يتم مخاطبة الأعشاب بهذه التعويذة، حيث يُعامَلُونها ككائناتٍ حية، وكمخلوقاتٌ تتفاعل وتستجيب، كحلفاء في مواجهة الرعب الذي يجتاح العالم. أنا أيضًا مندهش من مدى بُعدنا عن هذا الفهم الأساسي.
أضع أوراق الهفوف داخل حذائي لمنع انتفاخ قدمي وتخفيف الألم، و اتابع المشي.
عندما أغوص في المناظر الطبيعية التي نمر بها، وعندما أستشعرها على جلدي، أقترب من إحساسٍ متغير لكينونة الانسان، إحساسٍ يتفاعل مع البيئة المحيطة و تحفزه الحواس بدل عن المنطق. ربما يكون هذا نتيجة التوقيت وفترة الاستعداد للربيع، لكن أشعر أن جسدي يتجاوب بشكلٍ أكبر. يبدو كما لو أنه يهمهم بانسجامٍ على وتيرة محيطه. أكتب كلمة “الانتماء البري” في دفتر ملاحظاتي..
كانت النبتة المعروفة باسم “الهفوف” معروفة أيضًا في الأمريكتين بلقب “قدم الإنجليزي”، بسبب عادتها في النمو على طول المسارات التي أنشأها المستوطنون الجدد، وكانت تلك البذور مخبأة في حقائب البذور التي جلبوها من إنجلترا. إنها تذكير مفيد بأن العلاقات المتشابكة في الطبيعة لا تعترف بالقيم على أنها “جيدة” أو “سيئة” – ربما جلب المستوطنون الجدد تلك القيم معهم أيضًاً.
الزان الأوروبي – FAGUS SYLVATIC
ننام على المنصة الخشبية في كنيسة بارهام. بينما توقظنا في الصباح الباكرأشعة الشمس المتسللة من خلال النوافذ الملونة، يتبادر إلى ذهني فكرة المشي إلى كانتربري في ذلك اليوم. إنها واحدة من أهم وجهات الحج في أوروبا لأكثر من ألف عام، ومن المرجح أن المسار الذي اتبعته خلال هذه الشهور هو نفس المسار الذي سلكه الحجاج الأوروبيون الملتزمون بين كانتربري وسانتياغو دي كومبوستيلا. وعلى الرغم من أن كانتربري ليست وجهتي النهائية، إلا أن هناك رسم جداري في كاتدرائية كانتربري أرغب في رؤيته. يصور الرسم جانبًا من حياة القديس يوستاس الذي ألهم راسل هوبان لكتابة رواية ريدلي ووكر.
علماً أن الرواية تتتبع مسار تطور صبي يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، حيث يشاهد نفس المشهد في ريف كينت بعد مرور ألفي عام، ووفقًا لتعبير الكاتب “في نهاية طريق نووي مرير”..
في نهاية الرواية و نهاية مسيرة الحج، يسقط الوحي على الشخصية الرئيسية في الرواية في أطلال قلعة كانتربري و يقول:
“أشعر بشيء ينمو في داخلي، إنه يشبه بحرًا أخضر يتدفق في داخلي، يقول: أضيعه. يقول: دعه. يقول: القوة الوحيدة هي عدم القوة”.
القوة الوحيدة هي عدم القوة.
كلمات تمشي معي حتى الآن.
ماذا لو بذلنا جهودًا حقيقية للتخلص من السلطة في حياتنا، وتجاهلنا رغبة الحداثة في السيطرة البشرية على طبيعة مستعبدة، واستسلمنا للسير والتجدد بالتناغم مع حركة المد والجزر التلقائية؟
ماذا لو حاولنا حقًا التخلي عن السلطة؟ كيف يمكننا أن نتخلى عن رغبة الحداثة في الهيمنة البشرية على الطبيعة المقهورة؟ كيف سيبدو ذلك – إعادة تنظيم البشرية ضمن الدورات الكوكبية للتخلي و التجدد؟
كيف سيكون هذا الإحساس؟
سيكون يوم المشي قصيرًا نسبيًا حتى نتمكن من تخصيص وقت لطقوس تحديد معالم الطريق. شريكي الآخر في الرحلة آدم، وهو موسيقي ومعلم يوغا. وهو أيضاً كهربائي وخبير في الطاقة الشمسية ولكن هذا لن يساعدنا اليوم. في منتصف الظهيرة، كنا نسير بين أزهار الزهور الزرقاء المورقة التي تكسو غابة ترينلي على حافة كانتربري، عندما اختفت الأزهار فجأة في خط ملحوظ، كما لو أن تعويذة قد ألقيت. عند اقترابنا من المنعطف، نصل إلى حضرة شجرة زان ضخمة، يغطي لحاءها نقوش أجيال من الشباب العاشقين والحجاج المفتونين بالله. ثمة سحر هنا، أيًا كان ما نعنيه بالسحر، لذا نحرق بعض المريمية وأغني أغنية أعتبرها سحرية لأنها تجد طريقها إلى حياة الناس الذين أغنيها لهم، ولأنها هكذا وجدت طريقها إلى حياتي. وهي تتضمن جملة “ليكن الحزن ورقة متساقطة عند بزوغ الفجر”، وهي كلمات تحمل في طياتها كل ما أحاول قوله هنا. بعد بضعة أسابيع، طُلب من آدم أن يغنيها سهراً عند جثة ميت قبل دفنها.
البندق الشائع – CORYLUS AVELLANA
تأخرنا كثيرا في الوصول إلى كاتدرائية كانتربري، ولكن حارس البوابة يلقي نظرة على زي الحاج المستوحى من لباس ريدلي، ويومئ برأسه موافقا على إدخالنا، بابتسامة خفيفة. ندخل الكاتدرائية حيث تتلاشى أصوات تراتيل صلاة المساء الأخيرة، ولكنها كانت كافية لأشعر بصداها في المكان، صوت الأرغن يرن في الكهوف العلوية. حتى عصا البندق الخاصة بي تصدر صوتًا سماويًا عندما تطرق الأرض.
ووفقاً للتقاليد، فإن الحجاج إلى كانتربري يرمون عصيهم في البحر في وايتستابل، على بعد سبعة أميال، ولكن يبدو أن هذا الفعل يمثل نهاية لا أشعر بها حقاً. أنا أفهم الآن علاقة الحاج بعصاه. لقد حدث تفاعل كيميائي في الأشهر القليلة الماضية: هذه العصا ليست مجرد عمود خيمة، أو مسند للذقن، أو أداة لإزاحة العليق، بل هي أيضاً معلمة ملحة، توثق طبيعتها الخشبية في يدي المتعرقة، وتقرع الحصى، و تصدر صوتاً مكتوماً حين تضرب بالأرض الجافة، مأسورة بتعاون مجدٍ مع إيقاع قدمي الصعب المراس، خاصة عندما يكون الإيقاع هو كل ما تبقى.
الشيح الشائع – ARTEMESIA VULGARIS
تطقطق قدماي الحصى من تحتا وأنا أنظر إلى البحر البني المتماوج. وصلت في نهاية رحلة الحج إلى ما يسمى”الشارع”، وهو تشكيل رملي غامض يمتد لمسافة كيلومتر في البحر في ويتستابل، ويتميز بمد وجزر قديم. يحدث المد في وقت وصولنا، وأنا بحاجة للمغادرة قبل أن يغطيه الماء مرة أخرى، إذ لا يكون الشارع مرئيًا أو متاحًا. إن نهايات الحج غير ملموسة مثل هذه الأحداث، فهي تذكرني بأنني لا أحتفل بالنهاية دون أن أدرك أنها في الحقيقة بداية جديدة.
سأعود قريبًا، حين يتسنى لي المشي في وسط البحر في الليل، محاطاً بالماء والنجوم، مفكراً بالمكان التي يمكن لهذه الطريق التي لا وجهة لها ان تحملني تالياً.
و من هنا إلى نبتة الشيح الشائع، نبتة الأحلام. بماذا أحلم؟ ما هي الرؤى التي تظهر؟ من السهل أن نتخيل التجديد النظامي، والأقل سهولة أن نضع أنفسنا داخله، أو أن نتحرك نحوه كفرد. يمكننا الإيماء نحو مثل هذه الأهداف من خلال استخدام كميات أقل من البلاستيك، أو تجنب الطيران، أو محاولة عدم قيادة السيارة كثيرًا، ولكننا بالتأكيد نفهم الآن في الغالب أن هذه التغييرات الصغيرة لا ترقى إلى مستوى الهدف. لا يمكن أن تكون سوى طقوس لدرء الظلام، لمساعدتنا على الشعور ببعض الفاعلية. أفضل ما يمكنني أن آمله هو أن نعيد توجيه أنفسنا بشكل جماعي نحو طريقة للوجود في العالم ترحب بالحزن وتعترف بالتشابك وتمارس الرعاية وتبرز البطء وتمارس التآزر وتسعى للتجديد.
التجديد لا يتعلق بالجديد. إنه يتعلق بالقدرة على إعادة النظر في المألوف، القديم، الاقدم، حتى، مع الاستفادة مما تعلمناه في هذه الأثناء. كما أن إعادة النظر في علاقتنا بالأرض ليست فكرة جديدة، ومع ذلك، فإن الحج يتيح لنا لحظات نخطو فيها نحو مستقبل أكثر قدمًا ويتيح لنا مساحات عابرة لإعادة تخيل مكاننا فيها من جديد.