عقدت محكمة العدل الدوليّة يوميّ 11 و12 كانون الثاني/ يناير 2024، في لاهاي، جلسات علنيّة بناءً على طلب جنوب أفريقيا، التي اتهمت إسرائيل بارتكاب إبادة جماعيّة ضد الفلسطينيّين في غزّة، وطالبت باتخاذ إجراءات مؤقّتة عاجلة.
إنّ محكمة العدل الدوليّة هي أحد أجهزة الأمم المتحدّة، والمحكمة الدوليّة الوحيدة التي تتولّى تسوية النزاعات القانونيّة التي تعرضها عليها الدول وفقاً للقانون الدوليّ.
مثل الجميع، لم نستطع إبعاد أعيننا عن الشاشات خلال أيام جلسات الاستماع، عندما عرضت جنوب أفريقيا قضيتها، وقدّمت إسرائيل دفاعها.
وكما هو الحال مع العديد من القرّاء الآخرين، ومع إدراكنا لأهميّة هذه اللحظات، ظهرت أمامنا العديد من الأسئلة.
قرّرنا أن نطرح بعضها على المحاضر الأوّل في القانون الإنسانيّ الدوليّ والقانون الجنائيّ الدوليّ في كليّة الحقوق في نوتنغهام، لويجي دانييلي.
1. كم سيستغرق صدور حكم المحكمة؟ وما هي النتيجة الممكنة؟
لويجي دانييلي: تبتُّ المحكمة الآن في التدابير المؤقّتة العاجلة فقط التي طلبتها جنوب أفريقيا، وأتوقّع أنّ يصدر هذا الحكم قريباً، فقد يستغرق الأمر بضعة أيام أو أسبوعين كحدٍّ أقصى في تقديري.
بالنسبة لهذه التدابير المؤقّتة، يكفي إقناع المحكمة بأنّه من “المعقول” أنّ اتفاقية الإبادة الجماعيّة انتهِكت وتُنتهك، وأنّ هناك خطر وقوع أضرارٍ لا يمكن تعويضها للمدنيّين في غزّة، وأنّ هناك حاجة ملحّة لذلك.
أعتقد أنّ جنوب أفريقيا قدّمت حجّة مقنعة لهذه التدابير. وتجدر الإشارة إلى أنّ المحكمة في هذه المرحلة لا تُقرّر الأسس الموضوعيّة للادّعاءات المتعلّقة بانتهاكات اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها لعام 1948.
تتهم جنوب أفريقيا إسرائيل بالأعمال التي هدّدت بها الحكومة الإسرائيليّة والجيش الإسرائيليّ وتبنّتها وتغاضت عنها وتتخذها حالياً ضدّ الشعب الفلسطينيّ في غزّة، كمجموعة قوميّة وعرقيّة مختلفة عقب الهجمات على إسرائيل في تاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. (وهو الأمر الذي تُعارضه جنوب أفريقيا أيضاً، حيث أدانت في السطور الأولى من طلبها جميع انتهاكات القانون الدوليّ من قبل جميع الأطراف).
تواجه إسرائيل بالأخص اتهامات بعدم منع وارتكاب ثلاثة من السلوكيّات المحظورة بموجب المادة الثانية من الاتفاقيّة، وعلى التوالي هي: (أ) قتل أفراد المجموعة، (ب) التسبّب في أذى جسديّ أو نفسيّ خطير لأعضاء المجموعة، و(ج) فرض ظروف معيشية متعمّدة على المجموعة بغرض تدميرها الماديّ بشكل كامل أو جزئيّ، مع وجود نيّة ضمنيّة للقضاء على جزءٍ كبير من المجموعة الضحيّة. ووفقاً لجنوب أفريقيا، يمكن إيجاد تلك النيّة في العشرات من تصريحات المسؤولين الحكوميين والعسكريين التي باتت معروفة جيّداً الآن.
ومع ذلك، فإنّ الحكم الموضوعيّ بشأن هذه القضايا قد يستغرق عدّة سنوات.
2. ما هو الدور الذي تلعبه الدول في قرارات القضاة؟ هل قضاة محكمة العدل الدوليّة يمثّلون دولهم؟
ل.د: لا. يتمّ ترشيح القضاة من قبل الدول، ولكن لا يصبحون مندوبين عن حكومات دولهم بعد انتخابهم، ولا عن حكومات أيّ دولة أخرى. إنّ أعضاء المحكمة هم قضاة مستقلّون مكلّفون بمهمة تطبيق القانون الدوليّ دون خوف أو تحيّز. وقبل أن تولّيهم لمهامهم، يقدّمون أيضاً إعلاناً رسميّاً في محكمة علنيّة بأنّهم سيمارسون صلاحياتهم بنزاهة وأمانة.
بالطبع لديهم وجهات نظرهم وخلفياتهم وتفسيراتهم. ولكن هذا لا يعني أنّ محكمة العدل الدوليّة تعمل ضمن فراغ سياسيّ، أو أنّها تعمل تحت سماء نظريّة القانون المحضة. بطبيعة الحال، تعمل جميع المحاكم تحت ظلّ واقع سياسي، لكن هذه المرّة، هذا يعني بشكل أساسي أنّ الأمر أكثر وضوحاً من مجرّد قضيّة تتعلّق بالتدابير المؤقّتة ومعقوليّة ادّعاءات الإبادة الجماعيّة. إنّها قضية ضد دولة منتهكة للقانون الدوليّ بشكل كبير، والتي، على عكس الاتحاد الروسيّ، تتمتّع بدعم غير مشروط من القوى الغربيّة والمعايير المزدوجة للسياسات القانونيّة الدوليّة من قبل الدول الغربيّة.
من الصعب تخيّل اختبار أكثر وضوحاً للجنوب العالميّ لقياس ما إذا كان القانون الدوليّ هو ما يعتبره الجميع حقّاً، أو أنّه مجرّد امتداد لعلاقات القوّة لنبذ المنافسين الاستراتيجيّين.
3. ماذا يعني حكم محكمة العدل الدوليّة في التطبيق العمليّ؟ وبما أنّ إسرائيل لم تلتزم بقرارات الأمم المتحدة من قبل، فما الذي يمكن أن يختلف في هذه الحالة؟
ل.د: إنّ أمر المحكمة باتخاذ تدابير مؤقّتة سيكون مُلزماً على الفور، إنّه أمر معياريّ، إنّه القانون، إن صحَّ التعبير. ومن الغريب أنّ نتنياهو أعلن بعد وقت قصير من مرافعة فريقه القانونيّ أمام المحكمة: “لن يوقفنا أحد، لا لاهاي، ولا محور الشرّ، ولا أيّ شخص آخر”. بكلمات أخرى، لقد وعد بانتهاك أمر مُلزم قانونيّاً قبل صدوره إن صدر. ويبدو لي أنّ هذا يعزل الحكومة الإسرائيليّة أكثر. حتّى بالنسبة للحكومات الحليفة، سيكون من الصعب للغاية مواصلة دعمها في الرفض العلنيّ لأوامر المحكمة.
في حال أمرت المحكمة باتخاذ تدابير مؤقّتة ورفضت الحكومة الإسرائيليّة تنفيذها فعلاً، فمن الممكن إحالة الأمر إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتنفيذه. برأيي، لا شيء يؤكّد أنّ الولايات المتحدة ستواصل في تلك المرحلة إساءة استخدام حقّ النقض، لأنّ إدارة بايدن تفقد ملايين الناخبين في كلّ مرّة تستخدم فيها هذه السلطة ضد وقف إطلاق النار حتى الآن، وبهذا سيكون الأثر السياسيّ أكبر إذا ما اُستخدم حقّ النقض ضد تنفيذ قرار من محكمة العدل الدوليّة.
4. ماذا يعني الحكم الإيجابيّ أو السلبيّ في هذه القضيّة بالنسبة للنظام الدوليّ؟
ل.د: يعني كلّ شيء. إنّ القانون الدوليّ ككلّ يمرُّ بنقطة تحوّل حاسمة. لقد أثبت الشمال العالميّ برمّته تقريباً عدم قدرته على اتخاذ أيّ خطوة لاستعادة الشرعيّة الدوليّة، وبذلك تفاقمت مسؤولياته المتراكمة عبر سنوات من التواطؤ مع الوضع الراهن غير القانونيّ وغير المستدام، والذي لم يؤدّي إلّا إلى توليد المزيد من موجات العنف وانعدام الأمن وإيذاء المدنيين، خاصّة من الفلسطينيين.
إنّ فلسطين بمثابة الجانب المظلم لأوكرانيا بالنسبة للوعي الغربي. إنّ كلّ مبدأ قانوني كنّا قد أعلنّا بوضوح أنّه غير قابل للانتهاك في أوكرانيا، تمّ انتهاكه بوحشيّة في فلسطين، من حظر الضمّ، إلى حقّ تقرير المصير، وصولاً إلى جميع حقوق الإنسان تقريباً وحماية المدنيين في أوقات الحرب. دون أن ننسى أنّه خلال هذه الحملة العسكريّة، قتلت إسرائيل أكثر من 24.000 فلسطينيّ، بما في ذلك ما لا يقلّ عن 9,600 طفل و6,750 امرأة (أي 70% من الضحايا، بالإضافة إلى جميع المدنيين الذين قتلوا من الذكور البالغين الذين يبلغ عددهم حوالي 8,000، ممّا يرفع إجمالي الضحايا المدنيين من 85 إلى 90٪ على الأرجح)، بالإضافة إلى 8,000 آخرين من المفقودين، الذين يُفترض أنّهم قتلوا تحت الأنقاض، وإصابة أكثر من 60,000 فلسطينيّ، متسبّبة لهم بأضرار جسديّة ونفسيّة.
في مواجهة هذه الهاوية، هذه المأساة التي ستسم تاريخ هذا القرن، تحتفظ محكمة العدل الدوليّة على طاولتها بالاختبار النهائيّ للقانون الدوليّ.
يجب على سياسة المحكمة فيما يتعلّق بالتدابير الاحترازيّة، والسجلّات السابقة، وتدخّلات الدول الغربية لدعم اتهامات بارتكاب جرائم الإبادة في حالات مشابهة (مثل قضية غامبيا ضد ميانمار)، أن تدعو الدول بما يتوافق مع رؤاها القانونيّة الخاصّة، إلى اتخاذ نفس الإجراءات الآن والتدخّل لوقف ما وصفه العديد من خبراء الأمم المتحدة بأنّه “إبادة جارية”.
5. هل يمكن محاكمة دول أخرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا أو دول أخرى باعتبارها متواطئة في الإبادة الجماعيّة؟
ل.د: هناك قضايا مرفوعة الآن (على سبيل المثال من قبل مركز الحقوق الدستوريّة) في المحاكم المحليّة الأمريكيّة بتهمة التواطؤ وانتهاك الالتزامات الوطنيّة لمنع الإبادة الجماعيّة في غزّة. في الواقع، إنّ هذه الالتزامات المتعلّقة باتفاقيّة الإبادة الجماعيّة فسّرتها محكمة العدل الدوليّة نفسها على أنّها التزامات تجاه كافّة الأطراف، أي التزامات عالميّة تفرض على أيّ دولة طرف استخدام جميع الوسائل المتاحة لها لوضع حدٍّ للانتهاكات، والتي يحقُّ لكلّ دولة طرف الاحتجاج عليها، بغضّ النظر عن وجود ضرر محدّد أو مصلحة فرديّة.
6. قدّمت ألمانيا نفسها للدفاع عن إسرائيل كطرف ثالث. ماذا يعني ذلك؟
ل.د: هذا يعني أنّها ستتدخّل في القضية بملاحظاتها المؤيّدة لادعاءات إسرائيل. من الناحية الرسميّة، لدى ألمانيا الحقّ في القيام بذلك. ولكن من الناحية القانونيّة، سيكون هذا صعباً بالنسبة لألمانيا خصوصاً بسبب آرائها القانونيّة بشأن اتفاقيّة الإبادة الجماعيّة الداعمة لغامبيا في قضيّة الإبادة الجماعيّة المرفوعة ضدّ ميانمار، وكذلك لدعم أوكرانيا في قضيّتها ضدّ روسيا. كما يُلاحظ ستيفان تالمون، أستاذ القانون العام والقانون الدوليّ العام وقانون الاتحاد الأوروبيّ ومدير معهد القانون الدوليّ العام في جامعة بون، أنّ ألمانيا أكّدت سابقاً على أهميّة ألّا تضع محكمة العدل الدوليّة معاييراً صعبة لإثبات نيّة الإبادة الجماعيّة “وبذلك تجعل إثبات الإبادة الجماعيّة شبه مستحيل”. كما اقترحت أنّ “الدليل على الضرر الذي لحق بالأطفال قد يساهم في استنتاج أنّ الجناة كانوا يعتزمون القضاء على جزء كبير من المجموعة المحميّة”، أو حتى يمكن إثبات نيّة الإبادة الجماعية من وقوع “عمليّة عسكريّة عنيفة تؤدّي إلى النزوح القسريّ”.
لا يسعني إلّا أن أتمنّى حظاً سعيداً لألمانيا في محاولة التوفيق بين هذه المواقف وتدخّلها لدعم إسرائيل في هذه القضية.