في ديسمبر/كانون الأول 2015، انتشر فيديو مربك على وسائل التواصل الاجتماعي، يحتفل فيه يهود أرثوذكس من إسرائيل خلال حفل زفاف في القدس بقتل طفل فلسطيني، ويطعنون صورة الطفل بالسكاكين، معبّرين عن نيّتهم بالانتقام وإلحاق الأذى بأطفال فلسطينيين آخرين.
قبل بضعة أشهر، توفي الطفل علي دوابشة (18 شهرًا) حرقًا، حين أضرم مستوطنون النار في منزل عائلته في قرية دوما، جنوب مدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة. ثم قاموا برش عبارات “انتقام” و “يحيا المسيح الملك” ورسم نجمة داوود على حائط البيت. أمّا الوالدان فقد توفيا لاحقًا متأثرين بجروحهما في المستشفى. أما الوالدان، فقد فارقا الحياة لاحقًا متأثرين بجروحهما في المستشفى.
رغم أن الكثيرون أدانوا فيديو الشبان الذين كانوا يرقصون ويهتفون ويحتفلون بوفاة دوابشة بالبنادق والسكاكين، إلا أن ما يلفت الانتباه في فيديو الزفاف هو دمج موسيقى الروك والرقص، الذي يعزّز أجواء العنف والعدوانية في تلك اللحظة. في هذا السياق، لا تلعب الموسيقى دورًا سمعيًا فقط، بل تشكّل أيضًا نشاطًا جماعيًا يبني تجربة مشتركة بين مجموعة تلتحم ضد “عدو” مشترك. وتُحوّل آيات سفر المزامير، وكلمات مثل “زئير الكفار”، وصلوات الانتقام، الأجواء العاطفية إلى طقس شبه ديني، مما يعمّق الشعور والانسجام الجماعي، ويعزّز الهوية الجماعية، وبنفس الوقت يُطبِّع العنف ويغرس عقلية مشتركة من الكراهية.
يُظهر هذا الفيديو كيف يمكن للأغاني والاحتفالات الجماعية أن تصبح مساحات للتعبير عن العنف والكراهية، وتساهم في تشكيلهما. وتكشف الموسيقى، التي غالبًا ما يُحتفى بدورها التمكيني، جانبًا مظلمًا في قصة علي دوابشة، حيث تلعب دورًا أساسيًا وفعّالًا في تعزيز العداء تجاه الفلسطينيين.
ورغم أن هذه الحادثة وقعت قبل بضع سنوات ضمن ما يمكن اعتباره “سياقًا متطرفًا” في ذلك الوقت، لا يمكن تجاهل صداها مع الفيديوهات والأغاني وترندات التيك توك الرائجة حاليًا على وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية خلال الحرب المستمرة على غزة. لا تحمل هذه التعبيرات الجماهرية رسائل كراهية وعنف فحسب، بل إنها في بعض الحالات، تنحو نحو الإبادة الجماعية. والأهم من ذلك، لا تقتصر هذه الموجة الحالية على المستوطنين المتطرفين فقط، بل تمتد لتشمل فئات أوسع من المجتمع الإسرائيلي، من خلال منشورات وإنتاجات موسيقية تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي.
غالبًا ما تلعب الأغاني دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام والهويات والتوجهات. وعندما تنتشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي وتحتوي على خطاب تحريضي، يمكنها أن تنقل المستمعين إلى عالم من الوطنية والتطرف والعدوانية، مُعزّزة الرغبة في التغلب على العدو وتدميره. وتصبح بذلك جزءًا لا يتجزأ من أدوات الدعاية والترفيه العسكري، الذي يحتفي بالجيش ونشاطاته. من هنا أهمية دراسة الأغاني أو الأداء الجماعي، لرصد كيف تعكس تصورات وخيالات المجتمع وتشكلّهما. بالإضافة إلى أن تحليلها من خلال منظور الهوية الفردية والجماعية، يبيّن كيف تولّد الموسيقى تجارب مشتركة وتشكّلها، لا سيما في زمن الحرب، عبر تفكيك السرد والرموز المضمنة فيها، وتتبع مساهمتها في خطاب الحرب، وفي نهاية المطاف، فهم كيف تهيئ لبيئة ملائمة للعنف، وتمحي الآخر وتُجرّده من إنسانيته.
من التهويدة إلى التعذيب: الكشف عن سلاح مربك
غالبًا ما تُستخدم الموسيقى والأغاني كتعبير عن المشاعر القومية والأيديولوجيات المتطرفة، خاصة في أوقات الحرب. ومع ذلك، في سياق التعبئة والعسكرة المتطرفة، يصبح استخدام الموسيقى كسلاح وأداة للمحو ووسيلة لنشر رسائل الكراهية التي تساهم في المجهود الحربي وتحرّض على العنف، أمرًا أكثر وضوحًا ومقلقًا. يظهر ذلك بشكل خاص في حالة الهجوم العدواني الإسرائيلي على غزة، حيث تقف إسرائيل كدولة مهيمنة، مسلّحة وقوية، تسعى جاهدة إلى تشكيل الخطاب المحلي والعالمي، بينما تُلحق دمارًا واسعًا في أحياء غزة ومدارسها ومستشفياتها، وترتكب المجازر.
في الأيام الأولى للحرب على غزة، ظهرت ترندات مقلقة على تيك توك، وثقها الكاتب والمحلل الفلسطيني محمد شحادة، وكانت قد انطلقت من فيديو يُظهر جنودًا إسرائيليين يحتجزون معتقلين فلسطينيين معصوبي الأعين في الضفة الغربية المحتلة، ويُخضِعونهم بشكل متواصل لسماع أغنية للأطفال بعنوان “ميني مامتيرا” للمغني ميني تزوكيرل. ووصفت وسائل إعلام إسرائيلية بسخرية استعمال الأغنية بأنها “قصة مضحكة ومبتكرة” و”سلاح إسرائيل السري“، حيث تُستخدم الأغنية لفرض سماعها على السجناء لمدة تزيد عن ثماني ساعات. كما تعرض آخرون لإهانة إضافية عندما أجبروا على ترديد عبارة “تحيا إسرائيل” أو حمل العلم الإسرائيلي، مما يعزّز شعورهم بالضعف والعجز. لم يُقلل هذا الترند فقط من التجارب المؤلمة التي عاشها الفلسطينيون المعتقلون والمعذبون فحسب، بل أثار أيضًا السخرية عندما قام الإسرائيليون بتصوير ومشاركة فيديوهات تحاكي هذه الأعمال المهينة على أنغام التهويدة. فقام عضو سابق في الكنيست ومقدم برنامج في القناة الإسرائيلية 14، يينين ماغال، بإعادة تمثيل تلك المشاهد مع أطفاله. كما نشر جندي إسرائيلي فيديو على تيك توك وهو يغني أثناء نقله معتقلين فلسطينيين معصوبي الأعين، كجزء من تحدي آخر على التيك التوك لخطف الفلسطينيين وعصب أعينهم. كما استُعملت التهويدة في الأعراس، حيث قام البعض بمحاكاة المعتقلين عبر الجلوس معصوبي الأعين والاستماع إلى الأغنية، أو احتُفِي بالمغني ميني تزوكيرل باعتباره “بطلًا قوميًا“.
في مقاطع فيديو السجناء الأول، يتعرض المعتقلون الفلسطينيون لأكثر من مجرد اعتداء جسدي وعنف على أجسادهم. فالاستماع المتواصل لساعات من الموسيقى المتكررة يُخضعهم لشكل من أشكال الإذلال الذي يتسلل إلى قلوبهم وعقولهم. عاجزين عن الكلام أو الرؤية، يُجرَّد السجناء من وجودهم الإنساني، مّما يُحولهم إلى أجساد خاوية من المشاعر أو الحقوق السياسية، ويُقلِّل من قيمة معاناتهم. وبعيدًا عن الانتهاك الواضح لإنسانية المعتقلين وكرامتهم في مقطع الفيديو الأول، استخدمت فيديوهات التيك توك نفس التهويدة المرحة أو البريئة للسخرية من معاناة المعتقلين باعتبارهم دون البشر. يؤدي الاستخدام المتكرر والتراكمي لهذه الأغنية إلى تقليل مدى تأثير معاناة المعتقلين العميقة على المشاهدين، مما يُخفّف من خطورة الوضع ويُظهر سوء معاملتهم كشيء طبيعي.
في مختلف هذه الفيديوهات، ليس للسجناء وجهًا، أو حكايات، أو صوتًا، كل ما تبقّى هو أغنية إسرائيلية، تعذّب أجسادًا مجهولة… خارج الزمان والمكان والإنسانية، يُستبعد الأسرى من المجتمعين الإنساني والسياسي، ويُعاملوا ككيانات بدون حقوق أو حماية، كيانات يمكن الاستغناء عنها. تُمحى حكايات وأصوات الفلسطينيين مرة أخرى، وتُصبح غير مرئية ومكتومة، بينما تُفرض السردية والرؤية الإسرائيلية. لذا، تساهم هذه الفيديوهات في إسكات الفلسطينيين، وتجرّدهم من إنسانيتهم بشكل منهجي، وتُعزّز تطبيع العنف.
علاوةً على ذلك، في سياق تصوير الفلسطينيين المستمر كهمجيين و “حيوانات بشرية” في الخطاب الإسرائيلي، يُضفي ترند التيك التوك الشرعية على الجرائم الإسرائيلية ضدهم، ويبرّر الأفعال التي تنحو نحو الإبادة الجماعية.
صدى العدوان في الثقافة الجماهرية
في هذه البيئة المرتبكة، تُستخدم الفيديوهات والكلمات والموسيقى والمرئيات والرموز الثقافية لنشر أفكار تؤيد القتل الجماعي أو تحرّض عليه. ومن الأمثلة البارزة على ذلك أغنية “حربو دربو” للثنائي نيس وستيلا نيسيا، التي صدرت خلال الحرب الجارية وحققت شهرة واسعة في إسرائيل. إذ سيطرت على منصات الموسيقى لأسابيع، وصلت إلى المرتبة الأولى على قائمة أفضل الأغاني على منصة “الهيتليست” الإسرائيلية.
تعود عبارة “حربو دربو” الى اللغة العربية العامية وتعني “الحرب والضربات”، وهي في الواقع دعوة باللغة العبرية العامية لـ “إمطار الجحيم” على خصوم إسرائيل. تَستخدم الأغنية مصطلحات مسيئة، وتنعت الفلسطينيين “بالجرذان وأبناء العماليق”. تردّد هذه الإشارة إلى قبيلة العماليق القديمة، التي يُصوّرها التوراة كالعدو الأبدي للشعب اليهودي الذي يجب إبادته، كلمات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بداية الغزو البري لغزة. وتعكس كيف يُمكن للتصريحات السياسية أن تُتَداول، وتتسلل إلى العقول، لتظهر من جديد في الثقافة الجماهيرية. ولطالما استعان اليمين المتطرف الإسرائيلي بهذه الإشارة التوراتية لتبرير العنف ضد الفلسطينيين. وفي هذه الحرب، تُستخدم لتبرير الهجوم الوحشي على سكان غزة وإضفاء دلالة دينية على الحرب. نرى ذلك بوضوح في فيديو آخر شاركه الصحفي الإسرائيلي ينون ماجال على موقع X (تويتر سابقًا)، حيث يَظهر جنودًا يدافعون عن احتلال غزة ويدعون إلى القضاء على “نسل العماليق”، بينما ينكرون وجود “مدنيين أبرياء” في غزة.
في هذه الرواية العامة، يصبح جميع من في غزة هدفًا، مما يُبرّر عقاب السكان الجماعي وإبادتهم الشرعية، كما ورد في أغنية “حربو دربو”. فالأغنية لا تمجّد الجنود فحسب، بل تثني أيضًا على العدوان العسكري الضخم الذي شنّه الجيش الإسرائيلي على غزة، وتدعو إلى المزيد من الدمار والعمليات العسكرية والتهجير. كما تُشيد بكتابة أسماء الأطفال الإسرائيليين على القنابل التي تُسقَط على غزة، لترسم بذلك صورة مجتمع يسعى إلى الانتقام وجاهز للمعركة. تعزّز موسيقى الهيب الهوب – التراب (Trap) الجو العدواني بإيقاعها السريع وأنماطها الإيقاعية. ويعمّق إيقاع الدريل (Drill) توجّه الأغنية العدائي، “فيبصق” المغنون على كلّ من يطالب “بفلسطين حرة”، ويُشيدون بمحوهم، وينهون الفيديو برسالة باللغة العربية تؤكد على أنّ “كل كلب بيجي يومه”.
يتجلى نجاح الأغنية في استخدامها المفرط كترند على تيك توك. فقد قام العديد من الإسرائيليين باستعمال الأغنية في فيديوهات تُظهر دعمهم للحرب. وبينما كانوا يرقصون ويُحيّون الجيش، كانوا يرددون “واحد اثنان… أطلقوا النار”، ويُقلدون إيماءات إطلاق النار بأيديهم. بينما أشاد آخرون بالأغنية باعتبارها مصدر شفاء للشباب الإسرائيلي، معتبرين أنها وسيلة للتغلب على اكتئاب الأيام الأولى للحرب عبر توجيه الغضب والتعبير عنه. والحقيقة أن الهجوم الذي شنّته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول قد ترك المجتمع الإسرائيلي في حالة صدمة، ممّا أدى إلى حالة “اكتئاب” عاشها الإسرائيليون في الأيام الأولى للحرب. إلا أن الأغنية تعبّر بشكل واضح عن كيف تحوّلت هذه الكآبة سريعًا إلى إرادة عامة سائدة، لا تسعى فقط لسحق حماس، بل للانتقام من كل الفلسطينيين ومحو غزة، مما يعكس إصرارًا على استعادة صورة إسرائيل وضمان أمنها، من خلال نكبة جديدة فُرضت على الشعب الفلسطيني بأكمله.
“أغنية الصداقة 2023″: سرد مربك عن الحرب والقومية
لكن الأغاني لا تنقل فقط رسائل الكراهية والعنف؛ بل أنها تساهم أيضًا في صياغة الروايات التاريخية وتعزّز تشكيل الهويات القومية المتطرفة، خاصة في أوقات الحرب، كما يتضح من “أغنية الصداقة 2023”. وقد أثارت المقطوعة التي غنّاها أطفال إسرائيليون، وشارك في كتابتها شولاميت ستوليرو وعوفر روزنباوم، رئيس “الجبهة المدنية”، الجدل والغضب. فالأغنية أنشأت لدعم المجهود الحربي، من قبل الجبهة المدنية، التي، على الرغم من اسمها “المدني” الظاهر، هي مجموعة إسرائيلية، تشكلت بعد 7 أكتوبر، لتعبئة المجتمع الإسرائيلي لدعم الحرب على غزة. أُزيل الفيديو من موقع يوتيوب لانتهاكه شروط الخدمة. كما شاركته قناة “كان”، وهي قناة إخبارية إسرائيلية مملوكة من الدولة، ثم أزالته بسرعة بعد ردود الفعل العالمية الغاضبة التي تلقتها.
الأغنية مقتبسة من قصيدة وأغنية شهيرة من عام 1949، تخليدًا لذكرى اليهود الذين قُتلوا أثناء قيام دولة إسرائيل، بعد عام واحد من النكبة الفلسطينية. تُعدّ نسخة 2023 بمثابة تأكيد وإعادة بناء الحظة التأسيسية للهوية الإسرائيلية عام 1948 في أعقاب المحرقة. إن إعادة ربط اللحظتين التاريخيتين بعد النكبة باللحظة الحالية، أي الحرب المستمرة ضد غزة، هي بمثابة عنصر مهم في تشكيل وصياغة رواية البلاد وتاريخها.
يظهر في الفيديو أطفال يغنّون، وجوههم موجّهة نحو بعضهم البعض، وأحيانا نحو الكاميرا مباشرة. في بعض المشاهد، يعزّز العلم الإسرائيلي في الخلفية المشاعر القومية. يرسم المقطع الافتتاحي صورة هادئة لـ “ليلة خريفية” على شاطئ غزة، مصحوبة بغناء الأطفال البريء والهادئ. ومع ذلك، فإن هذا الهدوء تحطمه كلمات تدعو إلى القصف والدمار، مُرفقة بصور تبيّن المحو المدمر لغزة. ومع تسارع الموسيقى، تتصور الأغنية مستقبلًا يعود فيه الجنود الإسرائيليون، بعد القضاء على الفلسطينيين، إلى ديارهم لزراعة حقولهم، بعد إبادة جميع من في غزة.
يبدأ المقطع الثاني بوصف عاطفي لـ “حب مقدس بالدم”، معبرًا عن صرخة الأمة وكفاحها. ويتعزز الخطاب القومي في إعلان “شعب واحد، منذ قديم الأزل الى أبد الدهر”. ومن خلال رسم مقارنة تاريخية ومجازية بين الفلسطينيين، “حاملي الصليب المعقوف”، والنازيين، تُستخدم ذكريات المحرقة لمساواة الفلسطينيين بالنازيين وتعزيز العداء ضدهم. على غرار إشارة العماليق في “حربو دربو”، فإن هذه المقارنة تشير إلى إسرائيل باعتبارها أمة مضطهدة، لها حقوق طبيعية وتاريخية في الأرض، لذا يجب حمايتها. على الرغم من هذا الضعف المزعوم ودور الضحية، تُعزّز الموسيقى واللغة ذات الطابع العسكري الممزوجة بصور وحشية، بما في ذلك القنابل، والطائرات، والعلم الإسرائيلي، والجنود أثناء القتال أو الحداد، والمباني المنهارة، واللقطات الجوية للقصف، رواية العنف والتهجير والتفوق العسكري، مع تصوير الفلسطينيين كأعداء أبديين، وتبرير الأعمال التدميرية ضدهم.
كما يساهم الصوت الجماعي للأطفال في بناء المستقبل والسرد الجماعي. فهو مرتبط بإقامة دولة إسرائيل وذكرى المحرقة، وهو يُذكّر الجمهور الإسرائيلي باستمرارية تاريخية متخيلة: من ماض الاستقلال بعد تاريخ طويل مظلم، إلى حاضر تواجه فيه الأمة الإسرائيلية تهديدًا متجددًا (للإسرائيليين) من “حاملي الصليب المعقوف”، تُصوَّر الأغنية مستقبل النصر بعد محو العدو.
وفي هذه العملية، لا تُجيز الأغنية قتل العدو الأبدي والقضاء عليه فحسب، بل إنها تشكل أيضًا المشاعر القومية المتطرفة وتشوّه الحقائق التاريخية. فهي تؤكد على هيمنة الرواية التاريخية الإسرائيلية، مع التركيز بشكل كبير على بداية فصل جديد/قديم في 7 أكتوبر. ومن المفارقات أنّه في غضون ذلك، تبقى أي محاولة لوضع سرد الفلسطينيين في سياق تاريخي، بما في ذلك معاناتهم وخساراتهم، مرفوضة وممحية، خاصة خلال هذه الحرب، كما لو أن التجارب الفلسطينية منذ النكبة لم تكن موجودة على الإطلاق أو لا أهمية لها حقًا.
الكشف عن خطابات الكراهية في الحرب الإسرائيلية على غزة
يكشف تتبّع السرديات المحمّلة بالكراهية في المشهد الصوتي الإسرائيلي خلال الحرب، عن مشهد عنيف مليء بالتهديدات الصريحة والمحو وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم. هذه العناصر تعزّز ثقافة الكراهية والعدوان، مما يفاقم الحرب المستمرة على غزة. وغالبًا ما تشكّل هذه العناصر سردية الحرب عبر تأطيرها كصراع ديني أبدي أو إخراجها من إطاره التاريخي كجزء من النضال الاستعماري. ومع ذلك، من المهم الوقوف على نية تحريض العنف ضمن سياق الحرب والتهجير القسري والدعوات الصريحة إلى القتل الجماعي، خصوصًا عندما يمكن للجمهور المستهدف فك شفرة الرسائل وفهم الاستعارات.
من الناحية القانونية، يُعد إثبات حدوث الإبادة تحديًا معقدًا بالفعل، لا سيما عندما يُقدَّم قتل المدنيين بشكل جماعي كدفاع عن النفس ضد تهديدات أمنية، ويُؤطَّر تدمير غزة وسكانها على أنّه محاولة لتحقيق “النصر” على حماس بدلًا من “التدمير المنهجي” للسكان بأكملهم.
يصبح تأكيد نية الإبادة أكثر تعقيدًا عند التعامل مع الأغاني أو الرسائل المليئة بالكراهية. ومع ذلك، إنّ الاستناد إلى أسبقيات مثل قرار المحكمة الجنائية الدولية لرواندا بشأن أغاني مثل “أنا أكره هؤلاء الهوتو” للفنان الهوتو سيمون بيكيندي، المعترف بها كتحريض على الإبادة، يُعزِّز الحجة بأن الموسيقى ووسائل التواصل والإعلام، يمكن أن يساهموا بشكل كبير في المشهد الأوسع للصراع والكراهية والعنف، في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة.
في عملها حول تأثير البث الإذاعي على خطاب الإبادة الجماعية، تحدد كارول باولي، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة تكساس إيه آند إم، العوامل المترابطة التي تعزّز الكراهية ضد الأقليات وتشجّع على الأذى. ومن أجل فك رموز الرسائل الإعلامية التي تشكل تحريضًا على الإبادة الجماعية وحث الدول الأخرى على التدخل ووقف الجريمة، قامت بوضع إطارًا يتألف من سبع عوامل. ومن بين هذه العوامل، تُحدّد وجود قنوات إعلامية متنافسة تنشر رسائل الكراهية، وعدم الاستقرار السياسي، والدور المؤثر للقادة في نشر السرديات المسيئة وصورتهم الموثوقة، وهشاشة الجمهور، وسرعة وقوة وسائل الاتصال.
قد يُجادل البعض بأن حوادث معزولة، مثل فيديو عام 2015 الذي يصوّر طعن علي دوابشة، هي “انحرافات” مُدانة حتى بين فئات المجتمع الإسرائيلي. لكن انتشار الأغاني والفيديوهات المليئة بالكراهية، على وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية خلال الحرب المستمرة على غزة، يشير إلى تطبيع مثل هذه الأفعال الوحشية.
ينتشر هذا التطبيع بالفعل في اللغة العامة التي يستخدمها السياسيون الإسرائيليون في خضم قتل جماعي مستمر في غزة لأكثر من 25000 شخص، والتطهير العرقي وتهجير 1.9 مليون شخص (85٪ من إجمالي سكان غزة)، كل ذلك والعالم يشاهد. تَستخدم أغاني مثل “حربو دربو” و”أغنية الصداقة 2023″ وسائل الإعلام لتكثيف الخطاب المتشدد واللاإنساني، وزرع الكراهية، وتعزيز الرغبة في الانتقام بين المستمعين، في سياق العنف الجماعي الذي وصفه العديد من علماء الإبادة بأنه بالفعل إبادة جماعية.
يؤكد التفاعل بين وسائل الإعلام والسياسة والموسيقى في هذا السياق على الحاجة الملّحة لمعالجة وتحدي خطابات الكراهية المنتشرة في الثقافة الجماهيرية. ولا يعكس انتشارها هشاشة خطابات حقوق الإنسان فحسب، بل يثير أيضًا تساؤلات حول قدرتنا على منع أو وقف جرائم الحرب والإبادة الجماعية (والتحريض). ويدفعنا نحو إعادة النظر في اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تفشل في اعتبار خطاب الدول الحديثة وحروبها غير شرعية، تحديدًا في حالة دولة استعمارية استيطانية تحاول محو شعب وتاريخه وروايته منذ عام 1948.