الطريق المعروف بـ “طريق الوادي” الذي يتجه شرقاً من بلدة حارم إلى سرمدا، في محافظة إدلب الشمالية الغربية في سوريا، تحيط به التلالُ الملساء المغطاة بالعشب القصير، ترعى فيها قطعان الأغنام بكثافة.
قبل بضع سنوات، كان سيستمع العابرون في المنطقة بمنظرٍ مختلفٍ تماماً. كانت هذه الطريق الجميلة محاطة بظلّ كثيف من أشجار السرو والصنوبر، وكانت التربة على الحواف أكثر اخضراراً، مُزيّنة بالزهور الموسمية والصنوبر. تُظهر الصور الفضائية من عام ٢٠١٥، التقطت على غوغل إيرث، أقساماً طويلة من الطريق محاطةً بحزامين من الأشجار الزمردية.
“كانت المنطقة المحيطة بحارم غنية بأشجارِ السرو والصنوبر، خاصّة عندما تتجه شرقاً نحو حلب عبر ‘طريق الوادي'”، يتذكّر محمد، البالغ من العمر ٣٨ عاماً، الذي يعمل في مجال الإغاثة ويعيش قرب المنطقة. يُضيف: “ولكن بعد نزوح الناس من جميع أنحاء سوريا إلى حارم ومحيطها خلال الحرب، بدأوا بقطع الأشجار لتدفئة أنفسهم”.
اليوم، لم تعد هذه الغابة موجودة نتيجة لذلك القطع، ومن الصعب تصديق أنّ الأشجار كانت تنتصب على هذه التلال الخالية قبل أقلّ من عقد.
قصّة غابة حارم، التي تآكلت على مرِّ السنين بسبب قطع الأشجار بشكل غير قانوني، هي واحدة من آلاف القصص في سوريا. وفقاً لنتائج الأبحاث الحديثة في مجال الغابات، بين عاميّ ٢٠١٠ و٢٠١٩، تقلّص الغطاء الحرجيّ في سوريا بنسبة ٢٠٪ تقريباً. حذّر تقرير صدر العام الماضي عن منظمة PAX، وهي منظمة دولية غير حكومية أصدرتْ العديد من التقارير حول تأثير الحرب على البيئة السورية، من أنّ ٢.٦٪ فقط من أراضي البلاد لا تزال مغطاة بالغابات، مقارنة بنحو ١٥٪إلى ٣٠٪ قبل قرن مضى. ولكن حتّى هذه الغابات القليلة الباقية معرّضة للخطر. كما حذّر تحليل الاستشعار عن بُعد الذي أجرته منظمة PAX من أنّ ٣٦٪ من الغابات الطبيعية المتبقية، التي ينتشر معظمها في المحافظات الغربية لإدلب وحماة واللاذقية، قد تضرّرت بين عاميّ ٢٠١٨ و٢٠٢٠.
يُعدُّ قطع الأشجار غير المنظّم وإنتاج الفحم وحرائق الغابات من العوامل الرئيسية التي أدّتْ إلى تدهور الغابات في سوريا خلال الحرب. وفي بعض المناطق، تتهمُ أطراف النزاع المختلفة بعضها البعض بتعمّد نهب الغابات وإشعال النيران أو تركها تخرج عن السيطرة لتحقيق أهداف عسكرية.
انعدام أمن الطاقة وتفشّي الفقر
يتجلّى الضرر الذي لحق بالغابات السورية بشكل واضح في المناطق الشمالية الغربية والساحلية من البلاد، حيث يوجد ما يقرب من ٨٠٪ من الغابات الطبيعية. فهي موطن لأنواع أشجار شهيرة ولكن مهدّدة مثل الأرز (Cedrus libani) والتنوب السيليكي (Abies cilicica)، والصنوبر دائم الخضرة، وأشجار السرو، ومجموعة من الأشجار النفضية بما فيها البلوط والكستناء والفستق.
في هذه المناطق الساحلية والجبلية، الأكثر خضرة من بقية البلاد، تُعدّ إزالة الغابات قضية رئيسية تُغذّيها الحرب الأهلية القائمة. ويتجلّى هذا بشكل خاص في المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة في محافظتيّ حلب وإدلب، التي لجأ إليها ملايين النازحين من جميع أنحاء البلاد منذ عام ٢٠١٤، هرباً من القمع الوحشيّ للنظام السوريّ. أصبحتْ منطقة إدلب التي تُسيطر عليها المعارضة مكتظّة بالسكان الآن بحوالي ثلاث ملايين نسمة، ٧٠٪ منهم نازحون داخلياً من أجزاء أُخرى من سوريا. ولا يزال كثيرون يعيشون في خيام في مخيمات غير رسمية أُقيمتْ على الأراضي الزراعية التي تمّ مسحها بشكل عشوائي لإفساح المجال لهؤلاء الوافدين.
يتذكّر أحمد اليوسف، وهو ناشط بيئيّ من مدينة إدلب يبلغ من العمر ٤٤ عاماً، ويُدير صفحة للتنبؤات الجوية والرصد على فيسبوك، قائلاً: “أُزيلتْ البساتين لإقامة هذه المخيّمات، ومُسحتْ الغابات لإفساح المجال للأراضي الزراعية”. وفي إدلب وخارجها، ساهم النزوح الجماعيّ والحرب في إزالة الغابات أيضاً، حيث لجأ الناس إليها للحصول على الحطب، حيث أصبحت موارد الكهرباء والوقود والغاز نادرة ومكلفة للغاية نظراً للتدمير واسع النطاق للبنية التحتية للطاقة خلال الحرب.
ولكن الأسر التي تقطع الأشجار للتدفئة في الشتاء ليستْ الوحيدة المسؤولة عن التدهور الهائل في الغابات. قال محمد، أحد سكان حارم، “بمرور الوقت، بدأت تتشكّل مجموعات منظّمة لتقطيع الأخشاب وبيعها، وبعد فترة لم يعد هناك أيّ أشجار في الغابة المحيطة بحارم”. ويُضيف: “في نهاية المطاف، وصل الأمر إلى مرحلة كان فيها الناس يقتلعون الجذور من الأرض، ممّا أدّى إلى هذه الكارثة الكبرى: لم يعد هناك أيّ أشجار أو حتّى جذور متبقية في هذه الغابة”.
مافيا الخشب
على مرِّ السنين، أصبح قطع الأشجار غير المنظّم عملاً تجارياً في أجزاء معيّنة من سوريا، لا سيما في محافظة حلب الشمالية، التي تقع تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا. ووفقاً لتقرير PAX ذاته، سجّلتْ هذه المنطقة انخفاضاً كبيراً بنسبة ٦٠٪ من مساحات الغابات، وهو ما يعزوه واضعو الدراسة إلى حدّ كبير إلى قطع الأشجار المنظّم الذي تُديره الجماعات المسلحة، وهو “المحرّك الرئيسي” لإزالة الغابات منذ عام ٢٠١٥.
هذه ليستْ المرّة الأولى التي تُتهم فيها هذه الفصائل العسكرية بالتنظيم والاستفادة من قطع الأشجار على نطاق واسع هذا الذي يستهدف الغابات الطبيعية وبساتين الفاكهة والزيتون. ففي آب ٢٠٢٢، أثارت عملية إزالة الأشجار على ضفاف بحيرة الميدانكي، وهي محمية طبيعية في منطقة عفرين، غضباً وإدانة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اتهم العديد من الناشطين البيئيين لواء السلطان المراد، وهي جماعة مسلّحة محلية، بقطع الأشجار.
على الرغم من صعوبة التحقّق من الجهة المسؤولة عن هذا القطع الهائل للأشجار، بالنظر إلى أنّ المنطقة تخضع لسيطرة مشدّدة من قبل الجماعات المسلّحة، إلّا أنّ العديد من هذه الادعاءات تدعمها الصور ومقاطع الفيديو ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تُظهر أعضاء الفصائل المسلحة المشاركين في أعمال قطع الأشجار. وتمّ التحقّق من العديد منها بشكل مستقلٍّ من قبل منظمة حقوق الإنسان السورية، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، التي جمعتْ شهادات مجهولة المصدر من أعضاء الجماعات المسلّحة المشاركة في هذه التجارة المحلية. إنّ التورّط العميق للعديد من فصائل المعارضة في مافيات الخشب واضح أيضاً للعديد من المراقبين على الأرض: حتّى أنّ أحد الصحفيين الذين اتصلنا بهم من أجل هذه القصّة لتصوير غابات إدلب المتبقية رفض المشاركة في المشروع، قائلاً إنّ الموضوع “حسّاس للغاية” بسبب التدخّل العميق للميليشيات.
يقول أولئك الذين عاشوا في المنطقة قبل الحرب إنّ قطع الأشجار غير القانوني كان مشكلة لزمن طويل، ولكن على نطاق أصغر بكثير ممّا تشهده سوريا اليوم. وربّما استغلّت المجتمعات المحلية الغابات المجاورة سرّاً للحصول على الحطب، ولكنّ الطلب عليه كان أقلّ بشكل كبير، نظراً لوجود بدائل للتدفئة وفيرة وبأسعار معقولة، مثل الكهرباء والوقود. ولكن في حالات مثل حملة إزالة الأشجار في ميدانكي، يتم قطع الأشجار في وضح النهار، باستخدام الآلات الثقيلة ممّا يؤثّر على مئات الأشجار خلال فترة قصيرة من الزمن.
حرائق مذنبة
بالإضافة إلى الأضرار الناجمة عن قطع الأشجار، تشتعل حرائق الغابات العنيفة عبر مساحات شاسعة من الغابات الساحلية في سوريا كلّ صيف تقريباً، ممّا يساهم في الانخفاض العام في الغطاء الشجري.
من الصعب تقييم الدمار الذي تُسبّبه الحرائق في جميع أنحاء البلاد بدقّة، حيث أنّ سوريا مقسّمة إلى عدّة مناطق سيطرة ولا يتم جمع البيانات مركزياً عبرها. في إدلب وحلب الخاضعتين لسيطرة المعارضة، استجاب الدفاع المدني السوري، الذي يتولّى مكافحة الحرائق، لحوالي ١٧٥ حريقاً في ٧٤ بلدة وقرية في عام ٢٠٢٣ وحده، وفقاً لأحمد يازجي، أحد المتحدثين باسمه. وفي العام نفسه، أثّرت الحرائق على عدد مماثل من القرى ودمّرت خمسمئة هكتار في محافظات اللاذقية وحماة وحمص وطرطوس التي تُسيطر عليها الحكومة. لكن موسم الحرائق الأكثر قسوة حتّى الآن كان صيف وخريف عام ٢٠٢٠، عندما دفعت الحرائق أكثر من ١٤٠ ألف شخص يعيشون في المناطق التي تُسيطر عليها الحكومة في غرب سوريا للنزوح.
نظراً لأثر الحرائق المدمّر، أصبحتْ مكافحتها أولوية في المناطق التي تُسيطر عليها الحكومة والمعارضة. في أعقاب حرائق عام ٢٠٢٠، أصدرت محاكم النظام أحكاماً على ٢٤ شخصاً مشتبهاً بهم من “مُشعلي الحرائق”، ثمّ اُعدموا لاحقاً. لكن هذه الإعدامات الجماعية، التي تمّتْ بعد محاكمات سريعة، ندّد بها نشطاء حقوق الإنسان، قائلين إنّ النظام استخدم الحرائق كذريعة لإسكات معارضيه في المناطق المتضرّرة. ومن غير المرجّح أيضاً أن يكون لمثل هذه التدابير الجذرية تأثير كبير، نظراً لأنّ الحرائق ناجمة عن عوامل متداخلة متعددة.
بعضها بيئيّ، مثل “درجات الحرارة المرتفعة في الصيف وموجات الحرارة الشديدة التي توفّر الظروف المثالية لاندلاع الحرائق”، كما قال لنا يازجي، المتحدّث باسم الدفاع المدني السوري. لكنّ العوامل البشرية عادة ما تكون هي المحفّز، لا سيما في المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة والتي لا تزال تتعرّض للقصف بانتظام من قبل النظام السوري وحليفه الروسي. ويضيف يازجي أنّ “الحملات الجوية لقوّات النظام وروسيا تؤدّي أحياناً إلى إشعال الحرائق، كما أنّ بقايا الذخائر غير المنفجرة يمكن أن تُسبّب حرائق لاحقاً، عندما تتعرّض الذخائر لدرجات حرارة عالية”.
تشتعل العديد من الحرائق عن طريق الخطأ عندما يترك الناس خلفهم أعقاب السجائر أو فحم الشيشة بعد نزهة في الغابة، أو عندما يحاول المزارعون حرق الأعشاب الضارة في بساتينهم، ممّا يسمح للنيران بالخروج عن السيطرة. إلّا أنّ بعضها يُضرم عمداً. يقول يازجي: “في العديد من الحالات التي استجبنا لها، كان الحريق مفتعلاً ليتمكّن مَن وراءه من جمع فحم الحطب، أو لإزالة الأشجار ليستفيدوا من الأرض”.
معالجة إزالة الغابات
تؤثّر إزالة الغابات المتفشية على سوريا بأكملها، بشكل مباشر أو غير مباشر. عندما يتم تدمير الغابات وتسويتها بالأرض، فإنّها تتوقّف عن أداء العديد من الخدمات غير المرئية، ولكنّها ضرورية، مثل تنقية الهواء، والحفاظ على الرطوبة من خلال أوراقها، وتخزين الكربون. ويؤثّر فقدان الغابات على النظم البيئية بأكملها، بدءاً من النباتات والأشنّة والطحالب التي تعيش في ظلّها، وحتّى الحيوانات التي تعيش هناك والمجتمعات التي اعتادتْ استغلال ثمارها وأخشابها. عند إزالة الأشجار، تُصبح التربة معرّضة بشكل متزايد لأشعة الشمس، ممّا يؤثّر على جودتها ورطوبتها. وتلعب جذور الأشجار أيضاً دوراً أساسياً في توجيه الرطوبة تحت الأرض والحفاظ على التربة في المناطق الجبلية، لذلك غالباً ما يزداد التآكل في المناطق التي أزيلتْ منها الغابات، ولا تجد المياه طريقها بسهولة إلى الأرض.
“إنّ المناطق المختلفة المتضرّرة من إزالة الغابات مرتبطة ببعضها البعض، وتتصل معاً عن طريق الجبال أو مجاري الأنهار، ونحن جميعا نتأثّر بشكل مباشر، سواء على الفور أو على المدى الطويل، من خطر فقدان مساحاتنا الخضراء”، يقول يازجي متأسّفاً. “الأشجار ثروة مهمّة يجب الحفاظ عليها لحماية الأجيال القادمة من التلوّث البيئيّ والأمراض التي يمكن أن يخلّفها”.
ولكن على الرغم من الجهود التي تبذلها منظمته لمكافحة فقدان الغابات من خلال تدريب رجال الإطفاء المحليين ورفع مستوى الوعي في المجتمعات المحلية حول الوقاية من حرائق الغابات، يجب فعل الكثير لمعالجة الأسباب الجذرية الأُخرى لإزالة الغابات.
على الورق، تسير الأمور بسلاسة في المناطق الساحلية التي تُسيطر عليها الحكومة: بموجب قانون الغابات الجديد الذي اعتمدته الحكومة السورية في كانون الأول ٢٠٢٣، لا يُسمح لأصحاب الغابات الخاصة ببيع أو استئجار أراضيهم الحرجية بعد حرقها، ولو جزئياً. يجب عليهم أولاً إعادة زراعة ما لا يقلُّ عن ٤٠٪ من المساحة المتضررة، تحت إشراف اتحاد الغابات الحكوميّ، والتأكد من بقاء الأشجار لمدة عامين قبل أن يتمكّنوا من التقدّم بطلب للحصول على تصريح من وزارة الزراعة للتعامل مع أراضيهم بحرية مرّة أخرى.
وربّما تهدف هذه القاعدة إلى منع الناس من إضرام النار عمداً في غاباتهم من أجل استخراج الفحم أو استصلاح الأراضي للزراعة أو بيعها للمستثمرين. كما سيشّجع أصحاب الغابات من القطاع الخاص على الاستثمار في تجديد الغابات المتضرّرة بدلاً من تحويل الأراضي لاستخدامات أُخرى. ولكن مثل قوانين الغابات السابقة في سوريا، فمن المرجّح أن تُطبّق بشكل سيّء أو تعسّفي.
على سبيل المثال، تنصّ المادة ٦ من قانون الغابات لعام ٢٠١٨ (الذي تم استبداله الآن بنسخة ٢٠٢٣) على أنّ أيّ جهة عامة أو خاصة تسعى لاستغلال غابة يجب أن تحصل على تصريح من الحكومة السورية، وأن تتعّهد بإعادة تشجير الأرض بمجرّد استغلالها، وتقديم وديعة للسلطات العامة تُغطّي تكلفة إعادة تأهيل المنطقة (في حالة عدم امتثال الجهة المستغلّة للغابات لالتزامها بإعادة تشجير الأرض). لكن عدّة مصادر على الأرض، بينها عامل في إنتاج الفحم النباتي وموظّف سابق في وزارة الزراعة، قالت لموقع عنب بلدي السوري في عام ٢٠٢٠، إنّ القانون يُطبّق بالكاد، وأنّه من السهل رشوة شرطة الغابات.
ولا يبدو الوضع أفضل في مناطق سيطرة المعارضة، حيث “لا توجد خطط لدعم جديٍّ لزراعة الغابات أو حمايتها”، بحسب الناشط البيئيّ اليوسف. “إنّ أبسط القرارات التي أُعلنَ عنها حتّى الآن لم تُنفَّذ. ولا تزال الأشجار تُقطع يومياً، سواء في الغابات أو في المناطق التي أُعيدتْ زراعتها”.
في حارم، يأمل محمد أن يرى غابات شبابه تعود ذات يوم إلى جمالها الأصلي. ويقول: “إنّ إعادة تشجير هذه المنطقة ستكون مهمة صعبة ولكنّها ضرورية للغاية”. لكن هذا الحلم بعيد المنال، ولا يستطيع توهّم ذلك. “سيحتاج الأمر إلى الكثير من الموارد والمتابعة الحثيثة والكثير من المتخصصين للإشراف على التشجير والعناية بالشتلات وحمايتها.”