في الحادي عشر من شهر تشرين الأول نشرت فايس نيوز خبراً عبر حسابها في موقع إنستغرام تحت عنوان مخيف: “أطفال من بين ضحايا مجزرة حماس في الكيبوتس الإسرائيلي”.
العنوان واضح لا لبس فيه، لدرجة أن أيّ شخص قد يصدّقه أثناء تصفّح إنستغرام، ولكن إن كنتم قراءً صبورين، وتتعبون أنفسكم للوصول إلى أسفل النص، فسوف تصلون إلى هذه الفقرة المدفونة في النهاية:
“لم تكن فايس نيوز من بين الصحفيين الموجودين في كفر عزة [الكيبوتس] ولا يمكنها التحقق من هذه المزاعم. قال الصحفيون الذين كانوا حاضرين إنهم لم يتمكنوا من التحقق من هذه المزاعم لأن جثث الذين قتلتهم حماس كانت مغطاة بالفعل أو مختومة في أكياس الجثث”.
ظهرت عناوين قاسية مماثلة في العديد من وسائل الإعلام الأخرى، واصفة قيام حماس باغتصاب النساء، وبالذبح، وبقتل الأطفال “بلا رحمة”. وعلى عكس فايس نيوز، لم تكلف وسائل الإعلام الأخرى نفسها عناء إخبار جمهورها بأنها لا تستطيع التحقق من تلك التقارير.
لقد عملتُ صحفيًا لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، ولم أشهد قط وقتًا كان فيه المحررون مهملين إلى هذا الحد عندما يتعلق الأمر بنشر قصص بناءً على حسابات لم يتم التحقق منها.
يبدو أنّ الإرشادات التحريريّة المتعلقة بالتحقق والتعامل مع المزاعم قد تمّ تجاهلها بعد السابع من تشرين الأول.
الإبلاغ عن الهجمات على الإسرائيليين في مهرجان سوبرنوفا الموسيقي، وعلى العديد من الكيبوتسات المحيطة بغزة، كان ولا يزال بالغ الأهمية في تشكيل التصورات العامة للأحداث الجارية.
بدأ الأمر بقيام الجيش الإسرائيلي بتنظيم جولات صحفية لوسائل الإعلام في العاشر من تشرين الأول -لم تكن قناة الجزيرة من بين تلك الوسائل الإعلاميّة- إلى كيبوتس كفر عزّة وكوبيتس بيري لمشاهدة الدمار. كانت المشاهد مروعة، وكذلك شهادات الناجين، وبعض اللقطات التي تم الحصول عليها من كاميرات GoPro التي كانت بحوزة جثث مقاتلي حماس.
لكن كل هذه المواد لم تثبت أن ما حدث كان مذبحة متعمدة من قبل حماس، ومع ذلك هكذا نقلته وسائل إعلام عدّة مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وغيرها.
لو تمّ تنظيم جولات مماثلة في أماكن أخرى من قبل الجيش الروسي، على سبيل المثال، فإن العناوين الرئيسية ستتحدث عن “مزاعم عن مذبحة”، وستبدأ التقارير الإخبارية بـ”تحذير” للمشاهدين من أن المراسل على الأرض لا يمكنه التحقق من هذه المزاعم.
إنّ رؤية صور الجثث لا تؤهل أي صحفي لاستخلاص استنتاجات لا يمكن أن يتوصل إليها إلا خبير مستقل في الطب الشرعي، ومع ذلك فقد قرر العديد من المراسلين أنّهم يعرفون الحقيقة. ومن المفارقات أنّ وسائل الإعلام الإسرائيليّة هي التي قدمت لمحة أفضل عمّا حدث في تلك الهجمات.
حتى الآن، كشف تقريران على الأقل عن حادثتين قتل فيهما الجيش الإسرائيلي مدنيين عمداً. في الحادي عشر من تشرين الأول، كشفت القناة ١٣ الإسرائيليّة أنه بعد مواجهة طويلة بين الجيش ومسلحي حماس الذين كانوا متحصنين داخل مبنى في كيبوتس بيري، قرّر الجيش هدم المبنى، ممّا أسفر عن مقتل كلّ من كان بداخله: ٢٠ مسلحاً و١٤ رهينة إسرائيليّة.
ظهرت قصة مماثلة على هيئة الإذاعة الحكومية (كان)، من نفس الكيبوتس مع ناجية واحدة، ياسمين بورات، مؤكدة أنّ الجنود الإسرائيليين هم الذين قتلوا ما لا يقل عن خمس أو ست رهائن إسرائيليين.
لم يتم نشر أيّ من هذه الروايات حتى الآن في وسائل الإعلام الدوليّة. أمّا فيما يتعلق بالصحفيين الذين زاروا الكيبوتس، فمن الواضح أنّهم نقلوا “القصة” بالفعل وليس لديهم أيّ حاجة لتصحيحها.
على النقيض من ذلك، عندما تم قصف المستشفى الأهلي في غزة، ممّا أسفر عن مقتل المئات من المدنيين الذين كانوا يحتمون به، سارعت وسائل الإعلام إلى إجراء تحقيقاتها الخاصة، وجمع المعلومات من مصادر مفتوحة والتحدث مع الخبراء لمعرفة من فعل ذلك على وجه التحديد. كان الدافع وراء هذا الاهتمام بالتفاصيل هو ادعاء الجيش الإسرائيلي بأن حركة الجهاد الإسلامي هي المسؤولة عن الانفجار.
أبقت بي بي سي والجارديان عملهما عند الحد الأدنى، وقدموا صورَ الأقمار الصناعية وصوراً من موقع الانفجار إلى خبراء عسكريين وخبراء في الصواريخ الباليستيّة، الذين قالوا إنّ الحفرة الضحلة التي أحدثها الانفجار لا تتفق مع غارة جوية، وبالتالي من المحتمل أن تكون نتيجة لصاروخ خاطئ.
ومع ذلك، قامت القناة الرابعة، بعد فوات الأوان، بتذكير المشاهدين بالسوابق التي قدمت فيها إسرائيل ادعاءات كاذبة وأدلة ملفقة، مثل مقتل المصور البريطاني جيمس ميلر في غزة عام ٢٠٠٣، ومقتل شيرين أبو عاقلة من قناة الجزيرة في جنين عام ٢٠٢٢. وذكر التقرير أيضاً أنّ خبراء الصوت شكّكوا في صحة التسجيل الذي قدمه الجيش الإسرائيلي لاثنين من مقاتلي حماس، والذي يَزعم أن الانفجار كان نتيجة لصاروخ من حركة الجهاد الإسلامي. وفقاً لهؤلاء الخبراء، تمّ التلاعب بالتسجيل باستخدام المؤثرات الصوتيّة وأدوات التحرير، وبالتالي لا يتمتع بالمصداقية الكافية لاعتباره دليلاً.
من الجدير بالثناء أنّ القناة الرابعة تابعت القصة في اليوم التالي بتقرير مفصل يضم خبراء الصوت من Forensic Architecture، وقد ألقوا ظلالاً من الشك على ادعاء إسرائيل، لأنّ التحليل السليم يشير إلى أنّ الصاروخ الذي أصاب المستشفى جاء من الجانب الشرقي للمستشفى -على الأرجح من داخل إسرائيل- وليس من الجنوب الغربي كما تزعم إسرائيل. كما فحص التقرير التسجيل الصوتي الذي زعمت إسرائيل أنه لاثنين من مقاتلي حماس يناقشان كيف أخطأت حركة الجهاد الإسلامي في إطلاق صاروخ وتسببت في انفجار في المستشفى. وكشف تحليل الصوت أن التسجيل الصوتي تمّ تعديله بشكل كبير باستخدام المؤثرات الصوتية، مما يثير شكوكاً جدية حول أصالته.
يمكننا أن نتحدث عن التحيز في وسائل الإعلام الغربية والعنصريّة الهيكليّة التي تنتج مثل هذه التغطية غير المتكافئة للحروب في فلسطين وأوكرانيا… إلى ما لا نهاية. ولكن هناك عامل إضافي يجب أخذه بعين الاعتبار وهو العواقب التي قد تواجهها وسائل الإعلام عندما تنشر تقارير لا تروق لأي طرف معني. وفي حالة إسرائيل، في الواقع، يمكن أن تكون العواقب عقابيّة.
قد يفاجئ هذا البعض، لكن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون اعتبرت تغطية هيئة الإذاعة البريطانيّة (بي بي سي) للانتفاضة الثانية مؤيدة للفلسطينيين، إلى حد أنّه أصدر أمراً بمنعها من إجراء أي مقابلات أو أخذ أيّة معلومات من قبل أي شخص أو مؤسسة حكوميّة مهما كانت. ولم يعد بإمكان بي بي سي حضور المؤتمرات الصحفيّة والإحاطات الإعلاميّة، ولم تتمكن من الوصول إلى التقارير أو البيانات الحكومية، ولم يسمح أيّ مسؤول حكومي لبي بي سي بإجراء مقابلات معهم.
لقد كانت خطوة ذكية، فالحكومة الإسرائيلية لم تغلق مكاتب هيئة الإذاعة البريطانية. كان من الممكن أن يُنظر إلى ذلك على أنّه رقابة صارخة من شأنها أن تتعارض مع صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية. لكن بدلاً من ذلك، قيّدت الحكومة قدرة بي بي سي على تقديم تقارير دقيقة عن الأحداث في إسرائيل من خلال حرمانها من المعلومات. ونتيجة لذلك، اضطرت بي بي سي إلى العودة إلى أساليب وطرق بديلة للحصول على تلك المعلومات ، ولكن على المدى الطويل لم يكن من الممكن الاستمرار على تلك الحال.
في عام ٢٠٠٤، أجرت هيئة الإذاعة البريطانية مقابلة مع الرجل الذي كشف عن العمل النووي الإسرائيلي، مردخاي فعنونو، بعد ١٩ عاماً من السجن. وأمرت الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية القناة بتسليمها الأشرطة لمراجعتها قبل بثها على الهواء، لكن نائب رئيس مكتب القدس، سايمون ويلسون، رفض ذلك. ورداً على ذلك، لم يتم تجديد تأشيرة العمل الخاصة به، ومُنع من دخول البلاد مرة أخرى ما لم يقدم اعتذاراً رسمياً.
كان هناك الكثير من المقاومة، لكن في نهاية المطاف رضخ ويلسون. في آذار ٢٠٠٥ أصدر اعتذاراً، على الرغم من احتجاجات موظفي بي بي سي الذين قالوا إن هذه الخطوة قد تعرّض عملهم في إسرائيل وفلسطين للخطر. قال بيان لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن ويلسون “يتعهد بالامتثال للوائح في المستقبل ويدرك أنّ أي انتهاك آخر سيؤدي إلى إلغاء تأشيرته”.
لقد حدث هذا قبل ثمانية عشر عاماً، لكن لا ينبغي لنا التقليل من قوة ردع مثل هذه الأحداث.
عندما تكون الأوقات هادئة نسبياً، يكون من الآمن لوسائل الإعلام أن تنتج قصصاً تكشف لقرائها بشاعة الاحتلال الإسرائيلي. وفي العامين الماضيين، ظهرت المزيد من القصص في صحف مثل نيويورك تايمز حول القتل المستمر للمدنيين الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، فضلاً عن عمليات إخلاء المنازل وعنف المستوطنين الإسرائيليين. تتسامح إسرائيل مع هذا النوع من التغطية، ربما لأنّه يعمل على تصويرها كدولة ديمقراطية لا تفرض رقابة على وسائل الإعلام.
لكن عندما تكون هناك حرب شاملة، تتجه كل الأنظار نحو وسائل الإعلام حيث تُراقب كلّ دقيقة وتُقرأ كلّ كلمة صغيرة بحثاً عن خطأ واحد حتى يطلق على وسائل الإعلام لقب -كما تعرفون- معاداة السامية.
في هذا السياق، يكون الصحفيون إمّا غير راغبين أو مترددين في التحقيق في الروايات التي يسمعونها من الجانب الإسرائيلي. أشار تقرير حديث لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إلى رواية عن “جثث أكثر من عشرين طفلاً [ ] مقيدة ومحترقة” في كيبوتس بيري . ولا يوجد حتى توضيح بأن المراسل لم يتمكن من التحقق من هذه الادعاءات. وفي الواقع، فإن البحث البسيط في القائمة الحالية للضحايا، كما نشرتها صحيفة هآرتس، والتي تضم ٦٨٣ قتيلاً مؤكداً، يتضمن أحد عشر اسماً لأطفال دون سن الخامسة عشرة*.
على الرغم من أنها ليست لعبة أرقام بالنسبة للأشخاص الذين يقرؤون هذا المقال ويحاولون فهم ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين، إلا أنّ هذا هو بالضبط نوع التحقق والتحقيق الذي يجب على أيّ صحفي القيام به من أجل الاقتراب من الحقيقة قدر الإمكان في فوضى الحرب. يجب على أي صحفي غطى هذا الجزء من العالم لفترة كافية أن يعلم أن إسرائيل لديها سجل حافل من الكذب وتلفيق الأدلة. وقد سجل موقع ميدل إيست آي بعض الأمثلة الرئيسية في الآونة الأخيرة، في حين قدم موندويس Mondoweiss نظرة ثاقبة على التقارير الأخيرة في الصحافة الإسرائيلية، التي تشير إلى أن إسرائيل ربما قتلت أفراداً من شعبها عمداً أثناء القتال مع حماس في الكيبوتس. ولم يكن من الضروري إجراء بحث عميق للكشف عن ذلك لأن المعلومات كانت موجودة بالفعل. دعونا نرى ما إذا كانت وسائل الإعلام الرئيسيّة ستحذو حذوها.
*ملاحظة: تم نشر هذا المقال باللغة الانكليزية في ٢٦ أكتوبر لذا الأرقام الواردة فيه تعود لهذا التاريخ.