ماذا لو توقفنا للحظة مع الانكسار الذي نشعر به؟ مع حزننا الشخصي و/أو الجماعي، الحزن المخزن في أجسادنا، حزننا السياسي أو المناخي؟
ماذا لو حاولنا السير معه؟ في أي مكان كنا، ولكن معًا؟
هل يمكننا أن نعبر أماكننا المختلفة ونلتقي في مساحة أدائية، فنية؛ في مساحة من الإصغاء العميق؟
هل يمكننا من خلال الحزن أن نتخيل مكانًا نسكن فيه معًا؟
كانت هذه الأسئلة محور الجزء الأول، “المشي مع الحزن”، من “عام الإصغاء” الذي بدأه مهرجان “الرقص على الحافة” من سبتمبر 2022 حتى يونيو 2023، والذي كان لي شرف المشاركة في تصميمه كفنانة وقيّمة.
مهرجان الرقص على الحافة هو منصة للفنون الأدائية مقرها هولندا. وهي تعمل عبر الثقافات، وتبني جسورًا بين هولندا/أوروبا وغرب آسيا وشمال أفريقيا منذ عام 2006.
نأمل في هذا الملف، ومن خلال نصوص ستة فنانين كانوا جزءًا من “عام الإصغاء” هذا، أن نفكر معكم في هذه الأسئلة، وفي الطرق التي يمكن لمنصة ثقافية أن تعمل وتنتج بها في أوقات عدم اليقين التي نعيشها.
فبعد جائحة كورونا وفي ظل واقع الكارثة المناخية والحروب وأزمة الهجرة، اتخذ مهرجان “الرقص على الحافة” خيارًا جذريًا لتحويل طريقة عمله من الإنتاج والاستهلاك إلى الإصغاء وغرس البذور. الإصغاء إلى ما يهمنا كفريق، إلى شبكتنا من الفنانين والجمهور، إلى الأصوات غير المسموعة، والى الطبيعة.
من خلال ذلك استطعنا أن نخلق شبكات مميزة وجديدة من التعاون والتضامن.
تباطأنا وحاولنا اتباع إيقاعات الطبيعية. اتخذنا العام للغوص في أربعة مواضيع: الحزن، الولادة والموت، البذور والتآزر. وبالتعاون مع عدد من الفنانين، صممنا أربع فعاليات على مدار هذا العام تم توقيتها حول اعتدال وانقلاب الشمس.
كان “عام الإصغاء” هذا أشبه برحلة حج بالنسبة لنا، وانضم جمهور من مختلف أنحاء العالم إلى برامجنا وفعالياتنا من جولات صوتية وأبحاث فنية وورش عمل وعروض أداء أقيمت عبر الإنترنت و حياً في أربع مدن مختلفة: أمستردام وباليرمو والقاهرة وبيروت.
لم نستدع الفنانين للسفر إلى هولندا للمشاركة ولم نستخرج الممارسات من سياقها. لقد تعاونّا مع منصات وممارسات محلية في المناطق التي نعمل معها عادة، واستكشفنا الأشكال التي يمكن أن تسمح لنا باختبار هذه الممارسات ومعايشتها على الرغم من بعد المسافة الجغرافية بيننا وبينها.
تكشفت الفعالية الأولى من هذا العام “المشي مع الحزن”، كأداء جماعي حيث شارك الجمهور في المشي معنا على مدار أسبوع، أينما كانوا في العالم، واضعين أجسادهم في شبكة من المشاة، متتبعين وخاطين لجغرافياتنا ولواقعنا المتشابك.
في كل يوم، أُرسل إلينا تسجيل مختلف، بأربع لغات مختلفة، لنستمع إليه أثناء المشي. كان كل واحد منها عبارة عن اقتراح من فنان مختلف للاستماع إليه. المشي هو جزء من ممارسة هؤلاء الفنانين، وهو شكل يتأملون من خلاله موقعهم وعلاقاتهم بالعوالم التي يسكنونها ويسيرون فيها ومعها. في كل أمسية عقدنا مساحة استماع حميمة متعددة اللغات عبر الإنترنت، للتبادل ولحياكة السرديات الجماعية معًا.
في زمن الانكسار، كان حجنا هذا بحثًا عن المشاع، عن ممارسة ثقافية إيكولوجية، عن التضامن، عن الرؤى والعلاقات اللامركزية، عن مكان نسكن فيه معًا – معكم.
يبقى الكثير غير مروي عندما يتعلق الأمر بالحزن، والكثير غير مسموع ونحن نمشي ونتواصل مع كل شيء من حولنا.
لهذا الملف، أعدت النظر في هذه التسجيلات ودعوت أربعة من الفنانين لإعادة صياغة تسجيلاتهم في نصوص مكتوبة لمشاركتها معكم. بالإضافة إلى ذلك، دعوت الفنان غياث طه لكتابة نص جديد، وساهمت انا بنص ايضاً.
في نص “مفاتيح لحداد خبيء”، تأخذنا زينب شرف الدين في رحلة على طول مسارات متداخلة بين المعالم الداخلية لحزنها، والمناظر الطبيعية للتحول في القرية التي لجأت إليها بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان. رحلة حسية من الحداد والشفاء.
يدعونا غياث طه إلى طقوس حساسة وحميمية للغاية في “جسدي شجرة من الصنوبر”، حيث ينعى لنا أجساده المختلفة، ويصف أشكال موته المتعددة ويرحب بولادته من جديد كشجرة صنوبر. نسرع ونبطئ، ونسير معه بين الذاكرة والنسيان. يتردّد صدى سؤال ملحّ: هل نحن موجودون من خلال ذكرياتنا، وماذا يبقى منا إذا نسينا؟
في “تضاريس الذاكرة”، أنطلق من فعل المشي في مكان شخص آخر، وأختبر كيف يمكننا من خلال الآخر الوصول إلى تضاريس متخيلة، وحقيقية للذاكرة، والحزن، والرغبة. أتتبع ذاكرة جسدي وذاكرة المشهد الطبيعي من حولي. اتناغم مع ما يختزنه ظهري وبطني ويدي وركبتيّ بقدر ما اتناغم مع ما حفظته التربة والحجر والخشب والنباتات وغيرها؛ فتغمرني الصور. أين تكمن الصدمة؟ وهل تعرف الطبيعة الحزن؟
ما الذي يتغير عندما نمشي في سياقات ثقافية وسياسية مختلفة؟ أي (عدم) امتيازات تتمتع بها بعض الأجساد في المشي والتجوال؟
تنطلق دينا محمد من تجربة جسدها الحسية والفيزيولوجيا لاستكشاف هذه الأسئلة في نصها “للجسد ذاكرته”. فهي تصغي إلى كيف غيّر الحزن شكل عظامها وعضلاتها، وبالتالي وضعية مشيها وتجربة المشي نفسها.
أثناء المشي في بيروت، تكشف النباتات لكريستيان سليمان عن معرفتها وتاريخها المعقد المرتبط بالاستعمار والهجرة، وتغير تصوره للمدينة. يمشي سليمان ليقوم “بالتسليق”، وفي نصه “بيروت وعشبة الجراح”، يقدم سليمان “التسليق” كفعل سياسي لاسترداد المدينة. يرسم بجسده وحواسه طريقًا بين الريف حيث نشأ وتعلّم “التسليق” والمدينة حيث يعيش ويعمل.
وفي النص الاخير، يشاركنا إيان نيسبيت لقاءاته الحميمة مع بعض النباتات والأشخاص على طول طريق حجه. وفي نصه “ملاحظات حاج: التجدد”، تبدو هذه اللقاءات وكأنها هدايا أو رؤى عميقة ترشده في تساؤلاته عن موقع قوته ومنظوره كبشري بالنسبة للطبيعة، وعن الحزن والتشابك والرعاية. كما انه أثناء مشيه، يفتح مخيلته لرؤى مستقبل بديل ولطرق مجددة للتواصل مع العالم الذي نسكنه ونتشاركه.
من خلال هذه النصوص، ندعوكم للمشي مع أحزاننا وأحزانكم. لقد نظّمت مجتمعاتنا نفسها لتجنب الحزن أو لمطالبة من يحزنون أن يفعلوا ذلك بسرعة وبشكل منفرد، وبطرق لا تخل بمعايير الإنتاجية، أو تتطلب أي شكل من أشكال الرعاية المنهجية.
تؤمن منظمة الرقص على الحافة بأن مؤازرة الحزن هو شكل من أشكال المقاومة، وطريقة للإصرار على الاهتمام بانكسار هذا العالم، والعناية بأجسادنا وأرواحنا وعقولنا، وطريقة لتخيل مستقبل بديل وممارسات ثقافية توليدية وعادلة.
دعونا نستمر في المشي، فبهذا الفعل من أفعال النزوح الذي يبدو بسيطاً، ولدت المجتمعات والبيئات والثقافات. ويتطلب الأمر الكثير من المشي لتحويل وتجديد المفاهيم الراكدة التي نجسدها وتؤكدها ممارساتنا للهوية، للحدود، للوقت، للجنس وللعلاقات بين الإنسان/غير الإنسان والطبيعة.