حملات العلاقات العامة وعمليات التأثير الإسرائيلية ليست جديدة، ولكن يبدو أنها هذه المرة أكثر فعالية. هذا ما صرّح به أليساندرو أكورسي، كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، لمجلة حكاية ما انحكت.
ازدادت أهمية هذا الموضوع بعد الكشف عن عملية تأثير إسرائيلية كبيرة استهدفت الولايات المتحدة وكندا في بداية شهر يونيو. إذ وظّفت وزارة شؤون المغتربين الإسرائيلية شركة “ستويك” (STOIC)، وهي شركة تسويق سياسي مقرها في تل أبيب، لتعزيز حساب “مواطنون متحدون من أجل كندا”، من خلال إنشاء حسابات وهمية والضغط على الصحفيين.
نشر الحساب معلومات مضللة عن المسلمين في البلاد. وقد سبق لمارك أوين جونز، أستاذ في جامعة حمد بن خليفة في قطر، ومختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي، أن أدانوا الحسابات المزيفة وأنشطتها في فبراير ومارس 2024. وفي بداية يونيو نشرت ميتا ومختبر OpenAI تقارير كشفت عن تلك الحسابات وأوقفتها.
هل هذه الحملات ظاهرة جديدة؟ وكيف تختلف عن جهود العلاقات العامة والدعاية المماثلة في النزاعات السابقة؟
هذه الحملات ليست جديدة تمامًا. فقد بدأت إسرائيل الاستثمار في حرب المعلومات بعد حرب لبنان عام 2006. خلال حرب غزة في عام 2008، على سبيل المثال، افتتح الجيش الإسرائيلي قناة على اليوتيوب لنشر لقطات من طائرات بدون طيار لتبرير استهداف المباني المدنية. وقد تم تداول رواية “باليوود” (وهي دمج بين فلسطين وهوليوود في إشارة إلى المبالغة في تصوير معاناة الفلسطينيين والأخبار المزيفة المفترضة المتعلقة بعدد الضحايا) منذ عام 2012 على الأقل.
في عام 2014، استُخدمت منصة الإنستغرام للترويج لما سُمي “بالعسكرة الرقمية”. إلا أن حملات العلاقات العامة الإسرائيلية في الصراعات السابقة واجهت صعوبة في تبرير العنف على الأرض الذي وثقه الصحفيون الفلسطينيون والمواطنون الصحفيون. خسرت إسرائيل آنذاك المعركة الرقمية واضطرت إلى وقف الأعمال العدائية.
أما هذه المرة، وتحديدًا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الصراع، فقد حققت حرب المعلومات الإسرائيلية نجاحًا تكتيكيًا في دعم حملتها العسكرية.
وقد ساهم عاملان رئيسيان في ذلك. أولًا، تغيرت بنية وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير. إذ أصبحت مساحات وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أكثر استقطابًا، ويعتمد المستخدمون بشكل كبير على تحيزاتهم التأكيدية. تمكنت إسرائيل من تقسيم الجماهير وجعل كل حقيقة موضوعًا للنزاع. ففي كل تحقيق حول غارة جوية إسرائيلية، وفي كل احتجاج أو حدث سياسي، هناك تأطير بديل للأحداث، من دون حتى الادعاء بالتنافس على المركزية السياسية. لقد أجبرت إسرائيل الجماهير إمّا أن تنحاز إلى أحد الطرفين، حيث الكل معزول في غرف الصّدى التي تستقطبه، أو أن ترتبك أمام الروايات المتضاربة وتتوقف عن الاهتمام كليًا.
فعليًا، تعيش الجماهير المؤيدة للفلسطينيين وتلك المؤيدة لإسرائيل في واقعين متوازيين لا يفهمان بعضهما البعض. وينعكس ذلك أيضًا في الصعوبات التي تواجهها وسائل الإعلام التقليدية في تغطية الحرب.
ثانيًا، أصبحت هجمات السابع من أكتوبر بمثابة حجر الأساس الذي تُبنى عليه كل الروايات الأخرى. فمن خلال تضخيم عنف السابع من أكتوبر، تمكنت إسرائيل من سرد قصة أحادية البعد لصراع متعدد الأبعاد، وهي قصة أغفلت عقودًا من الاحتلال والحصار على غزة والعنف الممنهج ضد الفلسطينيين. وقد سمح هذان العاملان معًا لإسرائيل بالسيطرة على جزء كبير من النقاش.
هل يُعتبر توظيف الحملات التجارية ممارسة شائعة؟ وهل انخرطت إسرائيل في هذه الأنشطة بدافع اليأس فقط بعد غزة، أم أن الأمر يعود إلى فترة أقدم؟ وهل تؤوي إسرائيل بشكل عام المزيد من هذه الشركات؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلماذا؟
لقد عملت حكومات نتنياهو السابقة بشكل وثيق مع المنظمات غير الحكومية وشركات العلاقات العامة لتوسيع الحملة ضد حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS). تحاط تفاصيل هذه الصفقات وحجمها بالسرية إلى حد كبير، ولكن من المعروف جيدًا أن وزارة الشؤون الاستراتيجية التي لم تعد موجودة الآن، كانت قد تعاقدت مع منظمات لنشر ادعاءات ضد المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، وتشكيل شبكات من المؤثرين لتضخيم هذه الادعاءات على وسائل التواصل الاجتماعي.
نحن نعلم أيضًا أن صناعة التضليل الإعلامي الإسرائيلي المأجورة قد ازدهرت في السنوات القليلة الماضية، وأن خدماتها قد تكون تعاقدت عليها أفراد أو جماعات ضغط أو حكومات أجنبية لتنفيذ عمليات في القرن الأفريقي وجنوب الصحراء الأفريقية الكبرى.
منذ السابع من أكتوبر، جُندت بعض شركات التكنولوجيا الإسرائيلية في جهود الحرب، إما طواعيةً أو من خلال التعاقد معها. على سبيل المثال، تستخدم شركة تُدعى أكودا (Akooda) الذكاء الاصطناعي التوليدي لإدارة الحملات الدعاية الشعبية الزائفة. صُممت هذه الحملات لتبدو شعبية وأصيلة، فهي لا تخرق رسميًا قواعد منصات التواصل الاجتماعي.
يمكن للمستخدمين المؤيدين لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي التسجيل، ويقوم برنامج أكودا بإنتاج مواضيع نقاش أو ردود على منشورات محددة لهم. وقد اعترف الجيش الإسرائيلي أيضًا بإدارة حملات تستهدف الجمهور الإسرائيلي.
إلّا أن حالة شركة “ستويك” (STOIC) تُعتبر المثال الأول الموثق لتعاقد الحكومة الإسرائيلية مع شركة تضليل مأجورة استخدمت حسابات ومواقع إلكترونية وهمية. لم تكن الحملة في حد ذاتها معقدة بشكل خاص، وهذا ربما هو السبب في تمكننا من اكتشافها بسرعة. وربما تم التعاقد مع الشركة لتجنب إسنادها إلى جهات خارجية نظرًا للنبرة اليمينية المتطرفة للحملة وحقيقة أنها استهدفت صناع القرار.
في مقال كتبته مؤخرًا في مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy)، وصفت الطبيعة المتقنة والمتنوعة لجهود الدعاية الإسرائيلية التي نُفذت بعد السابع من أكتوبر. هل تعتقد أننا وصلنا إلى مستوى جديد من الاستراتيجيات الدعائية، أم أننا ببساطة نستخدم استراتيجيات قديمة، ولكن بجهود مكثفة؟ هل هناك حقًا شيء جديد؟
السياق مختلف، لكن الأساليب لا تزال إلى حد كبير كما هي. في الماضي، كان اعتماد إسرائيل على عقيدة عسكرية تسعى لتحقيق أقصى قدر من الضرر يتعارض مع استراتيجية حرب المعلومات. لكن السياق المختلف هنا، أي هيكلية وسائل التواصل الاجتماعي، وهجمات 7 أكتوبر، هو ما جعل الاستراتيجية هذه المرة مختلفة.
فقد تمكنت إسرائيل من القيام بالأمور بشكل أكثر فاعلية مقارنة بالماضي، في بيئة لا تعاقب على الانتهاكات بشكل فعال. على سبيل المثال، أزال موقع إكس (تويتر سابقًا) الضوابط على المعلومات المضللة، حيث تفضل خوارزميته المحتوى الذي يثير المشاعر القوية. كافحت ميتا (Meta) لتطبيق سياساتها الخاصة، حيث أفرطت في الإشراف على المحتوى المؤيد للفلسطينيين، بينما فشلت في اكتشاف المحتوى باللغة العبرية والإشراف عليه. استفادت إسرائيل من غياب الضوابط هذا، حتى أنها حولت المعلومات المضللة الموجهة ضدها لصالحها. لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تعمل كسوق للأفكار بقدر ما أصبحت مساحة يمكن للمجموعات أن تحصر فيها قاعدتها وتشوْه من خلالها سمعة خصومها. فلا يحتاج المرء إلى كسب تأييد مستخدمي تيك توك (TikTok)، إذا كان المستخدمون يميلون إلى أن يكونوا أكثر تأييدًا للفلسطينيين. يمكنه ببساطة تشويه سمعة تلك الفقاعة الديموغرافية وعزلها.
ماذا عن العناصر الجديدة الناشئة، مثل استخبارات المصادر المفتوحة (OSINT) أو الذكاء الاصطناعي؟
استطاعت إسرائيل في الحد من تدفق المعلومات الواردة من وإلى غزة. فقد واجه الصحفيون الفلسطينيون حملة كبيرة لنزع الشرعية عنهم وتشويه سمعتهم، بينما لا يُسمح للصحفيين الدوليين بالوصول الحر إلى القطاع. بالإضافة إلى ذلك، أدى قطع الإنترنت، والقيود المفروضة على الوقود، والاستهداف المادي للبنية التحتية للاتصالات، إلى تقليص كمية الأدلة المتوفرة من الأرض. وفي هذا السياق، أصبح عمل الباحثين في مجال استخبارات المصادر المفتوحة أكثر تعقيدًا وأهمية في آن واحد. فقد كانت التحقيقات البصرية هي الوسيلة الأساسية لضمان بعض المساءلة وتسليط الضوء على أسوأ حلقات هذه الحرب. ومع ذلك، كان هناك انتشار لحسابات “مؤثرين مضللين” التي تنشر المعلومات المضللة. تهدف هذه الحسابات، من خلال محاكاة شكل ومظهر استخبارات المصادر المفتوحة، إلى نزع الثقة في التحقيقات المرئية التي تجريها منظمات مثل Bellingcat أو Forensic Architecture أو فرق التحقيقات المرئية في وسائل الإعلام التقليدية الكبيرة مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست.
كان لحسابات “المؤثرين المضللين” المتخصصة في التضليل الإعلامي دور فعال في تعزيز التحيزات التأكيديّة وتقديم تأطير بديل للأحداث. وقد أثرت بعض ادعاءاتهم على تقارير وسائل الإعلام التي لم تكن مجهزة بفرق التحقيق المرئي الخاصة بها.
أما فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، فقد كان تأثيره محدودًا، لكن الخوف من الذكاء الاصطناعي أصبح يُستخدم كسلاح. يتميّز الذكاء الاصطناعي التوليدي في تصوير الأشياء التي لا وجود لها أو التي لا يمكن تصورها. وعلى الرغم من كل القيود المفروضة على تدفق المعلومات، مازالت تتدفق الصور القادمة من غزة. لكن الصور التي اُنتجت بالذكاء الاصطناعي، كانت محدودة جدًا ومعدلة بشكل واضح. لم يكن الهدف منها هو الخداع، بل توليد الشك. وبطريقة ما، سعت هذه الصور إلى تعزيز رواية “باليوود” أو “هجمات 7 أكتوبر كانت عملية زائفة”.
على سبيل المثال، استُخدمت صورة مفبركة لرجل فلسطيني بثلاثة أذرع يحمل طفلًا للادعاء بأن جميع الصور القادمة من غزة كانت مزيفة ومعدلة. وعلى الرغم من أن النص التوليدي قد يكون أكثر فعالية في تأجيج حملات التضليل الإعلامي أو حملات التضليل المشابهة لتلك التي تديرها منظمة STOIC، إلا أنه لا يوجد حتى الآن سوى بعض الأدلة غير الكافية لتقييم تأثيرها.
هل ربحت إسرائيل حرب المعلومات أم خسرتها؟
يعتمد ذلك على تعريف الانتصار. فمن وجهة نظر الهاسبارا التقليدية، تخسر إسرائيل حاليًا حرب المعلومات. من الواضح أن إسرائيل تستنزف رأس المال السياسي في هذه الحرب، مع ما يترتب عليه من عواقب على المدى الطويل. لم يكن الخطاب العام يومًا ناقدًا لسلوك إسرائيل وأفعالها كما هو الآن. الطلاب يتظاهرون، وتتشكل روابط تضامن جديدة. تفقد إسرائيل دعم فئات سكانية كبيرة، بما في ذلك بعض الفئات التي كانت عادة من المؤيدين لها. يتحدى جيل من الصحفيين والشخصيات على الإنترنت الروايات الراسخة. ويفرض صحفيو التحقيقات البصرية أنفسهم في غرف الأخبار التي كانت تعتمد تقليديًا على البيانات الصحفية وتصريحات الجيش الإسرائيلي عندما لا يكون لديهم إمكانية الوصول المباشر.
ومع ذلك، إذا نظرنا إلى أهداف الحكومة الإسرائيلية من منظور محدود وقصير الأمد، حيث تُعطى الأولوية للبقاء السياسي على حساب الأمن على المدى الطويل، فقد حققت إسرائيل انتصارًا تكتيكيًا.
فهي قد تمكنت إلى حد كبير من الصمود أمام رد الفعل السلبي للرأي العام الدولي وحشدت ما يكفي من الدعم الأساسي لتجاوز المنعطفات السياسية الصعبة. لم تحاول الحكومة الإسرائيلية كسب تأييد المركز السياسي. بل سعت إلى القضاء عليه، مما عزز رؤية ثنائية للصراع تسمح لها بالبقاء في السلطة ومواصلة العمليات العسكرية ضد حماس، سواء في صراع مفتوح أو حرب خفية طويلة الأمد.
وقد ساهمت حرب المعلومات، وما زالت جزئيًا، في خلق مساحة كافية لتأجيل وقف إطلاق النار، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.