في الخيام التي نُصبت على عجل، والمدارس المُحوّلة إلى مآوٍ، تعیش النساء في صمتٍ لا یُفصِح عن نفسه. هذا الصمت ليس اختيارًا، بل نتيجة تراكم طويل من الإنهاك الجسدي والنفسي. فحين تُنهك الحرب مدينة، لا تتفتّت فقط الجدران، بل الأجساد، وخاصة أجساد النساء.
في قلب هذا الإنهاك، يبرز الحيض كواحد من أبرز أشكال المعاناة المنسيّة. هذه الوظيفة الجسدية الطبيعية، التي يفترض بها أن تكون مسألة صحية يومية، تتحول في زمن الحرب إلى عبء مركّب، يتقاطع فيه العار المجتمعي مع غياب الرعاية الصحية، والنظرة القامعة تجاه جسد المرأة.
النساء في النزوح، في الخيمة، والأماكن المكتظة التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الخصوصية، يُجبرن على التعامل مع الحيض وكأنه أمر طارئ يجب إخفاؤه بأي ثمن. دون مستلزمات نظافة أو بيئة آمنة أو اعتراف بمعاناتهن. ومع ضغط الاحتلال والإبادة، يضاف عبء ثقافي من المجتمع، الذي يفرض الصمت والعار على أجسادهن، فيصبح الحيض سرًا مكبوتًا يزيد من عزلتهن ويضاعف معاناتهن اليومية، وسط صراع مستمر بين قسوة الواقع ورقابة المجتمع.
ويٌعاد بذلك تعريف الجسد الأنثوي كمكان تُمارَس عليه السلطة بشكل مباشر، حيث تُحدّد قيمته حسب ما إذا كان يُسمح له بالبقاء أو يُترك للموت. يُستبعد جسد المرأة الفلسطينية من الحياة التي يُعترف بها، فلا يُرى أو يُسمع داخل معاناة غزة. هناك، تُمنع المرأة الناجية من الحديث عن حيضها، خوفها، أو جوعها، لأن صوتها لا يتوافق مع الخطاب الرسمي للحرب، الذي يركز على الأرقام ويُفضل اللغة المحايدة على الشهادات الشخصية التي تكشف المأساة الحقيقية.
لا يٌسجَّل الجسد الأنثوي كرقم في قائمة الإصابات، ولا يُذكر في تقارير الإغاثة أو نشرات الأخبار، بل يتحول إلى أرشيف حيّ للعنف، لا يكتفي برواية ما حدث، بل يعيشه ويعيد كتابته في اضطراباته، وصمته، وتأقلمه مع الخوف. ليصبح بذلك وثيقة سياسية، يُظهر كيف يتحوّل العنف الممنهج إلى تجربة حميمة مكتومة تعيشها المرأة داخل جسدها. ولا ينتهي الانتهاك بانتهاء القصف، بل يستمر في صمت ما بعد الإبادة.
الحيض في زمن الحرب: الجسد بين الإهمال والاستهداف
في ظل الحصار والاستهداف الممنهج للبنية الصحية، الذي يمنع وصول المستلزمات الأساسية مثل الفوط أو الأدوية المسكنة، تخفي النساء نزيفهن في طبقات من القماش أو قطع من الخيام الممزقة، أو حتى ورق الجرائد والخِرَق القذرة. هذا الاستخدام القسري لأدوات غير آمنة، يؤدي إلى انتشار الالتهابات والأمراض النسائية الخطيرة، وسط غياب تام لشروط النظافة أو الخصوصية. وهكذا، بيتحوّل الحيض من فعلٍ بيولوجي طبيعي إلى تجربة سياسية: يُحرَم الجسد من حقوقه الأساسية، ويُجبر على الصمت تحت وطأة الخوف والعجز.
ما يزيد من قسوة هذه التجربة أن النساء يُستهدفن كجزء من استراتيجية الاحتلال. فقد دمّر الجيش الإسرائيلي المستشفيات، بما فيها أقسام الولادة والصحة الإنجابية، وقصفَ سيارات إسعاف تقل نساءً حوامل أو جريحات، وعرقلَ وصول الأدوية المرتبطة بالصحة الإنجابية والمساعدات عبر المعابر. وثّقت منظمات حقوقية حالات تشوهات خلقية، وولادات طارئة في ظروف غير إنسانية، وحرمان آلاف النساء من العمليات الجراحية. بهذا، يتحول جسد المرأة الفلسطينية إلى ساحة مواجهة: يُقصف، يُحاصر، ويُترك ينزف دون علاج أو مساعدة.
وفي ظل هذا الانهيار الكامل للرعاية، يُضاف عبء اجتماعي آخر. إذ يُتوقع من النساء تحمّل الألم بصمت، دون أن تُؤخذ معاناتهن على محمل الجد. وتتحول الدورة الشهرية إلى حديث هامس، أو بكاء في الزوايا، في ظل غياب الاعتراف والدعم.
كما تُجبر بعض النساء على الزواج مجددًا، لا بدافع الرغبة، بل لحماية أطفالهن أو لتخفيف العبء الاقتصادي عن أسرهن بسبب الأوضاع المعيشية القاسية. أحيانًا، يُصبح مهر الفتاة كيس طحين أو وعدًا بالطعام. هذا النوع من الزواج يُفرض على النساء دون أن يُمنحن الوقت لفهم قراراتهن أو معايشة حزنهن، بل يُختصر وجودهن في وظيفة النجاة، ويُستخدم جسدهن كوسيلة للبقاء.
في ظل هذه الظروف، يبدو الجسد الأنثوي مسرحًا لصراعٍ مضاعف: صراع ضد بنية استعمارية تسحق كل ما هو حي، وصراع ضد ثقافة تُخفي معاناة النساء وتُقصيها.
ويصبح الحيض فعل مقاومة صامت. تُجبر النساء على التعاطي مع أجسادهن كأدوات للبقاء، ويجدن في الاعتراف بألمهن تحديًا للإنكار. حين تطلب امرأة فوطًا صحية في خيمة، أو تتحدث عن وجعها، فهي تمارس فعلًا سياسيًا يعلن أن الجسد الأنثوي يستحق الحياة، لا الخزي.
الجسد الأنثوي أرشيف للسردية المغیّبة
في غزة، لم یعد الجسد الأنثوي مجرد كیان بيولوجي، بل صار خریطة يومية للحصار، تحمل أثار الجوع، والحرمان، والإذلال الممنھج. وتظهر تجلياته في الإرهاق المستمر، والاضطرابات الهرمونية، وتبدلات الجسد تحت وطأة الضغط ونقص التغذية. في كل ذلك، يتحول الجسد إلى سجل حيّ لتجربة، إلى وثيقة تتكلم بصمتٍ عن تفاصیل لا تُكتب في تقارير المنظمات ولا تُرصد في نشرات الأخبار.
في الوقت نفسه، یُفرض على المرأة أن تكون رمزًا وواجھة. فھي التي “تحمل العائلة”، وتُطالَب بالصمود، بینما یُتوقّع من جسدھا أن يستمر في العطاء رغم التھتك، ويواصل أداء طقوس الحیاة رغم محاولات المحو المستمر.
لكن ھل تُقاس النجاة بعدد الأيام، أم بعدد التأويلات الممكنة؟
في البقعة الأكثر ازدحامًا بالموت على ھذا الكوكب، صارت الحیاة محاولة دؤوبة لإعادة تأویل النجاة، فهي ليست مجرد بقاء جسدي، بل فعل دائم لإعادة تشكيل الحياة وسط الدمار والفقد. فالنساء لا ينجون فقط، بل يتحوّلن إلى واجهات للفقد، يُعاد تشكيل وجودهن في قلب المعاناة، دون أن يُمنحن صوتًا يوازي ما يواجهنه.
ھذا الجسد، الذي غالبًا ما كان یُقرأ اجتماعیًا باعتباره “وعاء الشرف” أو “رمز العائلة”، بات الیوم آخر أرشیف متبقٍ لذاكرة المدينة. وحين تُستھدَف النساء عمدًا، فإن ما یُستھدَف ھو الذاكرة، والاستمرارية، والنَفَس الأخیر للحیاة. تفقد اللغة قدرتها على السرد، ويصبح الجسد هو الراوي الوحيد. يصرخ بصمت، يحمل الندبة كأرشيف، ويواصل مقاومته بلغة لا يفهمها إلا من عاش النجاة كألم دائم.
وفي نهاية هذا النزيف الطويل، يبقى سؤال الجسد معلّقًا: هل من قيمةٍ له في زمن الفقد؟ كيف نُقرّ بأن الجسد الأنثوي، وسط الخراب، ليس مجرّد أداة للعبور، بل هو موقع للمعاناة والمقاومة معًا؟
في وجه التواطؤ العالمي، في وجه التجاهل، يظل الجسد الأنثوي شاهدًا لا يمكن شطبه، وذاكرة لا يمكن محوها. هو ليس ضحية فحسب، بل وثيقةُ وجود، وشهادةُ مقاومة، وذاكرةُ شعبٍ يقاتل كي يُرى، وكي يُصغي العالم أخيرًا إلى وجع النساء، لا كصدى عابر، بل كحقيقة مركزية في كل حرب.