شهدت أولمبياد باريس المُقامة هذا الصيف لحظات من النصر والتفوّق الرياضيّ، لكنّها أيضًا سلّطت الضوء على فجوة عميقة في كيفيّة الاحتفال بالنجاح، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالرياضيين من الجنوب العالمي. حقّقت الملاكمة الجزائرية إيمان خليف فوزًا مذهلًا بالميدالية الذهبية في أولمبياد باريس، وهو بلا شكّ إنجاز تاريخي. ومع ذلك، طغى على الاحتفاء بها موجة من الجدل – دارت ليس حول مهاراتها أو إصرارها، بل حول جنسها. الشائعات والتكهنات حول هويّة خليف، التي نفتها مرارًا وتكرارًا كل من الاتحاد الجزائري واللجنة الأولمبية، أصبحت محور الاهتمام لكثيرين، ما يكشف عن الطرق الخبيثة التي تستمرّ بها العنصرية والتمييز الجنسي في تشكيل الخطاب في الفضاءات الرياضية والنسويّة على حد سواء.
تعامل الإعلام والجمهور مع إيمان خليف يسلّط الضوء على مشكلة أعمق تتعلّق بمن يُسمح له بأن يجسّد النجاح والأنوثة، خاصة ضمن الحدود الضيقة للأفكار النسويّة الغربية. في دراسة هذا الجدل، تقدّم الكاتبة النسويّة الأميركية بيل هوكس إطارًا حيويّا لفهم كيفيّة استمرار الممارسات الإقصائيّة داخل الحركات النسويّة في تهميش النساء الملوّنات. تقول هوكس في كتابها “نظرية نسوية: من الهامش إلى المركز” ، أن أي نسويّة لا تتعامل مع قضايا العرق والطبقة والإمبريالية تفشل في تقديم رؤية شاملة للعدالة. حالة خليف توضّح كيف تظهر هذه الممارسات الإقصائيّة في السيناريوهات الواقعيّة، حيث يتم نزع الشرعيّة عن إنجازات النساء من الجنوب العالمي من خلال عدسات عنصريّة وجنسيّة.
بيل هوكس حول التقاطعية: جوهر النضال النسوي
في كتابها “النظريّة النسويّة: من الهامش الى المركز” تعتبر بيل هوكس أن النسويّة فعل تقاطعيّ صرف، قائم بشكل كامل وتام على دفع الظلم عن كل النساء. أن تتماهى مع تلك وتنسى الأُخرى، أن تدافع عن واحدة وتتهجّم على الثانية، أن تكون هنا ولا تكون هناك، كلها أفعال مجانبة لجوهر النسويّة وخيانة للكفاح الجماعي من أجل المساواة. وتوضّح أن أي نضال نسويّ يسعى إلى المساواة دون مكافحة العنصريّة والتفوّق الأبيض هو أعرج بطبيعته. وبهكذا يفشل هذا الحراك القاصر عن إدراك الترابط بين الاضطهاد والحاجة إلى نهج تقاطعيّ حقيقي.
إنّ التقاطعيّة ليست مجرد فكرة أكاديمية، بل إنّها ضرورة عملية وأن الفشل في معالجة الطبيعة المترابطة للعرق والطبقة والجنس من شأنه أن يؤدي إلى نسويّة لا تخدم سوى قلّة مختارة محظوظة، تاركة وراءها النساء الأكثر تهميشا. وتعتبر بيل هوكس أن الحركة النسويّة ليست حركة متجانسة، إنه كفاح متنوّع وديناميكي يجب أن يتطوّر باستمرار لمعالجة واقع جميع النساء، وخاصة اللّاتي تم تهميشهنّ تاريخيّا.
إن الجدل المحيط بإيمان خليف يتحدث مباشرة عن أهمية التقاطعية في الفكر والنشاط النسوي. إن التشكيك في جنس خليف متجذر في مزيج من الافتراضات العنصرية والجنسية حول ما “يجب” أن تبدو عليه المرأة وكيف يتم تعريف الأنوثة. بالنسبة للنساء الملونات، وخاصة أولئك من الجنوب العالمي، غالبًا ما تستبعد هذه التعريفات الضيّقة من اعتبارهن مشاركات شرعيات في كل من المساحات النسويّة والمؤسسات المجتمعيّة الأوسع. إن نقد بيل هوكس للنسوية البيضاء ضروري لفهم كيف شُوّه إنجاز خليف باتهامات لم تكن تتعلق بجنسها الفعلي بقدر ما كانت تتعلق بالحفاظ على التسلسل الهرمي العنصري والجندري.
النسويّة البيضاء وعقدة المُنقِذ
حتى وإن سعت النسويّة البيضاء لنفي هذه التهم عنها وحاولت أن تعطي انطباعًا بأنها تقاطعيّة فإنّها غالبًا ما تتبنّى موقف المنقذ الأبيض، وتضع نفسها كمدافع خير وليس حليفًا حقيقيًا في النضال من أجل المساواة. هذا النهج الركيك يعزّز اختلال توازن القوى بدلاً من تفكيكه والنتيجة هي شكل من أشكال الحركة النسويّة التي قد تبدو شاملة على السطح، ولكنّها في الواقع تعمل على استدامة ذات أنظمة عدم المساواة التي تدّعي أنها تعارضها.
في حالة خليف، يكشف ردّ فعل النسويّات البيض – أو عدمه – على الجدل حول جنسها عن كيفيّة تجلّ هذه الديناميكيّة. بدلًا من التحدّث علنًا لدعم خليف وإدانة الافتراضات العنصريّة والجندريّة الكامنة وراء الاتّهامات ضدّها، بقيت العديد من الفضاءات النسوية صامتة أو متواطئة. يمكن اعتبار هذا الصمت جزءًا من نمط أوسع حيث تعطي النسويات البيض الأولويّة لمعاناة النساء اللاتي يشبهنهن بينما يتركن النساء مثل خليف يواجهن بيئات معادية وإقصائية بمفردهن.
النمط الأوسع للإقصاء في الفضاءات النسوية
تجربة إيمان خليف ليست حادثة منعزلة. إنها تعكس نمطًا أوسع من الإقصاء الذي واجهته النساء من الجنوب العالمي، والنساء الملوّنات، والمجموعات المهمّشة الأخرى لعدّة قرون. النسويّة، خاصة في شكلها السائد والحالي، غالبًا ما أعطت الأولويّة لتجارب النساء البيض من الطبقة المتوسطة، مهمّشة بذلك الأخريات. هذا الإقصاء ليس مجرد مسألة إغفال – إنّه يظهر الطرق التي كانت بها النسويّة متواطئة في الحفاظ على الأنظمة العنصرية والطبقية.
في حين أن البعض قد ينظر إلى تجربة إيمان على أنّها حادثة معزولة، إلّا أنّها تعكس في الواقع نمطًا أوسع من الإقصاء المستمرّ الذي تواجهه النّساء في الجنوب العالمي. ومن خلال التركيز في المقام الأول على تجارب ونضالات النساء البيض، وحصر النساء ضمن هذه المُثُل الضيّقة، يتم تهميش وإسكات أصوات مثل إيمان. هذا الإقصاء ليس مجرد مسألة إغفال – إنّه يعكس الطرق التي كانت بها النسويّة متواطئة في الحفاظ على الأنظمة العنصرية والطبقية.
لطالما جادلت بيل هوكس بأن النسوية يجب أن تواجه تناقضاتها الداخلية إذا كانت تريد أن تكون حركة تحرير حقيقية. تهميش النساء مثل خليف داخل الفضاءات النسوية ليس فقط فشلًا في التضامن – إنه خيانة للمبادئ الأساسية للنسوية. من خلال استبعاد النساء اللواتي لا يتناسبن مع التعريفات الضيقة للأنوثة أو اللواتي لا يشاركن نفس الخلفية العرقية أو الثقافية، تصبح النسوية أداة للقمع بدلًا من أن تكون قوة للتحرير.
انتصار إيمان خليف: دعوة لنسوية أكثر شمولا
كان ينبغي أن يُحتفل بفوز إيمان خليف بالميدالية الذهبية كتأكيد لقوتها وصمودها وإصرارها. عوضا من ذلك، أصبحت لحظة للجدل حول العرق والجنس والإقصاء في كل من الفضاءات الرياضية والنسوية. تجربة خليف تمثل تذكيرًا قويًا بالحاجة الملحة للنسوية للعودة إلى مبادئها الأساسية واحتضان مقاربة حقيقية للتقاطعية. لا يمكن للنسوية أن تدعي النضال من أجل العدالة إذا استمرت في دعم الأنظمة التي تقمع النساء الأكثر تهميشًا.
رؤية بيل هوكس للنسوية تدعو إلى حركة شاملة لجميع النساء، بغض النظر عن العرق أو الطبقة أو التعبير الجندري. هذا يعني تحدي السرديات الثقافية التي تملي من ينتمي إلى الفضاءات النسوية ومن يتم دفعه إلى الهامش. يتطلب الاعتراف بأن الحركات النسوية كانت في كثير من الأحيان متواطئة في الحفاظ على الهياكل السلطوية والامتيازات التي تستبعد النساء مثل خليف. لتكريم انتصارها بشكل حقيقي، يجب علينا مواجهة هذه القضايا المجتمعية الأوسع والعمل على خلق نسوية شاملة وعادلة ومتساوية لجميع النساء.
انتصار خليف ليس فقط انتصارًا في الحلبة – إنه رمز للصمود ودليل على القوة التي تأتي من احتضان الهوِيَّة بشكل كامل. إنه انتصار يتحدانا جميعًا لنكون أفضل، ونعمل بشكل أفضل، لضمان أن تفي الحركة النسوية بوعدها بالعدالة والمساواة لجميع النساء, بكل تمظهراتهن