كلما أقترب الموت أشعر به.
كانت ليلة هادئة من أصوات القصف المدفعي والصاروخي، لكن صوت إطلاق الرصاص لم يتوقف. الساعة الثالثة فجرًا والصوت قريب جدًا. الجميع في بيت صديقي محمد غنيم نائم، بجانبي أخوه أحمد نائم ايضًا، والغرفة يسودها الظلام. الستائر مسدلة كي لا نستيقظ من أشعة الشمس صباحًا. لكنّ الأصوات غريبة، وشعرت أن هناك شيء ما سيحدث في سوق النصيرات.
طوال ساعات الليل وأنا أشعر بالاختناق، هو شعور مألوف أشعر به قبل حدوث شيء قريب مني. حاولت تجاهل شعوري والبقاء في بيت محمد رغم كل ما شعرت به، رغم أحساسي بمغادرة المكان.
يسكن محمد في النصيرات، بالقرب من بنك فلسطين مقابل صيدلية الزهور، في مكان يسمى “Block C”. يعيش مع أهله وأخوته في نفس البيت. بيتهم يتكون من ثلاث طوابق وسطح، يعيش في الطابق الأول والده ووالدته وأخته النازحة عندهم وأخيه عبيدة. في الطابق الثاني، يوجد شقة أحمد وفكري، زوجة أحمد نازحة في بيت أهلها، وفكري يعيش في شقته مع زوجته وابنته. في الطابق الثالث شقتين، يعيش فيها محمد وزوجته وابنته ألين، ومقابله أخيه محمود المتزوج حديثًا، قبل عدوان 7 أكتوبر، مع أحمد.
محمد كاتب عبقري وملحن، عمره ثلاثين عام، حاصل على جائزة الكتاب الأول من مؤسسة القطان، وفاز بجائزة عن قصة اسمها البرزخ. يعمل كميسر للمهارات الحياتية مع مؤسسة تامر، وتزوج قبل ثلاث سنوات وله ابنة.
في كل مرة أذهب للقاء محمد، ننام في شقة أحمد لأنه ينام هناك بمفرده. تجتاحني تلك المشاعر وحدي، لأن أحمد ينام على بعد مترين عني على صوت المسلسل المصري “الكبير”. وأبقى وحيدًا غير قادر على التأقلم، بسبب وجودي داخل بيت وخوفي من أن يُقصف البيت فوق رأسي مرة أخرى، مثلما حدث سابقًا معي.
قضيت هذه الليلة أخفي فيها كل الاشارات التي تقول لي أن هناك حدث قادم قريب جدًا، وغرقت في النوم حتى الساعة التاسعة صباحًا. دخل علينا محمد ومعه الفطور، جلسنا نتحدّث قليلًا ونأكل حتى العاشرة والنصف. حينها بدأت أشعر كالعادة بكل الأشياء التي شعرت بها في المرات السابقة، كأن روحي تنسلخ من جسدي وأنني في مكان لا أعرفه. كل الأصوات من حولي تختفي، وأشعر أن دوامة تلفني، ولا أدري إلى أين تأخذني.
لحظات قليلة، قررت أنا ومحمد الصعود إلى سطح المنزل كي نكمل مشروعنا. نعمل على كتابة حلقات مرئية تتناول تصدير الرواية الفلسطينية والتلوث الذهني الذي يسبّبه الاحتلال، من خلال المعرفة وتحطيم الجبهة الداخلية.
صعدنا إلى السطح وجلسنا، بدأنا نسمع أصوات قذائف دبابة تقترب، وصوت صفير القذيفة وهي تمر بين الأزقة تخرق هدوء المكان. نظرنا من فوق سطح البيت، وجدنا مروحية الهليكوبتر تحلق بارتفاع منخفض فوق المخيم. نظرت أنا ومحمد إلى بعضنا البعض وقلنا، “هليوكوبتر بهذا الارتفاع يعني اقتحامًا بريًا للجيش في النصيرات”، يجب أن ننزل إلى الشارع لنرى ما يحدث بأنفسنا.
نزلنا إلى الشارع وبدأنا نسأل الناس عما يجري. أخبرنا طفل قادم من السوق أن قوات خاصة اقتحمت مخيم 5 داخل النصيرات. النصيرات مقسمة إلى مربعات سكنية صغيرة، كل مربع يُطلق عليه اسم يختلف عن الآخر.
عدنا إلى البيت حيث قال لي محمد، “عليك الذهاب إلى أهلك الآن، فخان يونس داخل مستشفى غزة الأوروبي”، سألته، “وأنت”!
فأجاب، “عليك الذهاب كي لا يقول أهلك أنك استشهدت عندي”.
محمد قرر البقاء مع عائلته في منزلهم. أخذت أغراضي ونزلت إلى الشارع كي أعود، ومحمد نزل معي. قال لي، “هذا شارع الزهور، يوصلك إلى دير البلح مباشرة، بعد حوالي 3 كيلومتر.”
بدأت بالمشي تحت أشعة الشمس الحارقة، صوت الاشتباكات في كل مكان من حولنا. النساء يبكين، الأطفال يصرخون، والناس ينقلون الجثث بالسيارات إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح. صوت القذائف يقترب أكثر فأكثر. بدأنا بالجري لنصل إلى دير البلح.
أمسكت هاتفي وبدأت بتصوير الناس وهم ينزحون للمرة الخامسة على الأقل. كان هناك صوت طفلة تصرخ وتقول “أبي، أبي”. كانت أمها تمسك بيدها وتحاول اسكاتها، لكن والد الطفلة بقي على الأرض، شهيد أمام أعينها، فكيف تنسى كل هذا وتهرب من دونه!
بقينا نمشي مرة ونجري مرة أخرى، والجميع يقول أن قوات خاصة قد اقتحمت سوق النصيرات خلف هايبر مول وشارع العشرين. مما يعني أن الاحتلال قد أطبق على النصيرات مثل الكماشة من كل الأطراف، محتجزًا الناس في الوسط، ليقتل فيهم دون رحمة.
الطريق طويل أمامنا، والأخبار تتناقل بسرعة، فهناك أخبار عن إخلاء محيط مستشفى شهداء الأقصى تنتشر بين الناس، أصبح الموقف محير وقاتل. نحن ننزح من النصيرات إلى الدير، وهناك ناس تنزح من محيط الدير إلى النصيرات أو الزوايدة بلا وجهة محددة. نمشي في شارع، نجد طائرة الكواد كابتر أمامنا، نلتف إلى شارع آخر لنكمل الطريق. نسير قليلًا، نجد بيتًا قُصف على من فيه، نستمر بالمشي حتى وصلنا وكل من خرج من النصيرات إلى وسط سوق دير البلح، عند مفترق يُسمى بمفترق المدفع.
أثناء الطريق، اتصل محمد ليطمئن على وصولي. في المرة الأولى طلب مني أن أخبره عندما أصل لدى أهلي، في الاتصال الثاني أخبرني، “ابن عمي استشهد وخالي مصاب”. طوال الطريق حبست دموعي لأني تركت محمد وعائلته خلفي، حبست دموعي كثيرًا وشعرت بذنب كبير لتركهم رغم قرار محمد بالبقاء في منزلهم.
أخذت سيارة عند مفترق المدفع إلى خانيونس- بني سهيلا، ومن ثم سيارة أخرى إلى مستشفى غزة الأوروبي. وصلت إلى المستشفى، وبدأت بالبكاء، وبعد ساعة صرت آكل أي طعام أمامي دون الشعور بالشبع، كأني أفرغ غضبي بالأكل.
نحن نعيش كابوس اسمه الموت داخل دوامة النزوح.