هذا المقطع من أغنية معروفة كنّا نرددها في جمعات الأصدقاء. كان صديقي بلال عقل يغنيها بطريقة غير عادية تنقلك الى حالة حب دافئة حتى وإن كنت لا تحب. سمعته لأول مرة يغني هذا المقطع بالتحديد في بيت صديق لنا في الشجاعية بالقرب من بيتي.
بلال صوته جميل ودافئ جدًا. اعتدنا أن نجتمع دائمًا على سطح صديقنا محمد غنيم، نجلس ونأكل سويًا، نحكي عن أوضاع البلد، عن الروايات والشعر، عن كرة القدم، وعن النكات الجديدة التي يصنعها هو أو يسمعها من المسلسلات المصرية التي يقترحها لنا محمد. كان محمد يمسك العود ويضرب، ويغني خلفه بلال، ونغني معهم بصوت واحد. كنّا نغني جميع الأغاني الوطنية بشكل تسلسلي. كان بلال كاتبًا، يجيد اللعب بالكلمات، يُرقصها كما يشاء، يقرأ بنهم، يسبق الحياة بخطوة.
قبل يوم واحد من قتل بلال على يد جيش الاحتلال الصهيوني، كنت أنا ومحمد عنده. قال لي: “ابقى هنا للغد كي نجلس على السطح في اليوم التالي، قلت له: “لا أستطيع”.
لو كنت أعرف أن هذه الجلسة ستنقذ حياتك، لبقيت.
في اليوم التالي، قُصفت شقة أهل بلال بصاروخ حارق، من الصواريخ الأمريكية التي دخلت للجيش مؤخرًا. تعرض بلال وعائلته كلها للإصابة بالحروق بدرجة عالية، جدّه، أباه، بلال، أخاه الأصغر، ثلاثة اطفال، وأمه، جميعهم مصابون بحروق بنسبة 40% وما فوق، بلال بنسبة 65%.
قال الأطباء أن جميعهم تعرّضوا لتسمم بسبب البارود، جلدهم غير موجود بالكامل وبسبب التلوث في قطاع غزة بهذه النسبة، لا يوجد علاج لهم، الأمر متروك لأجسادهم وقدرتها على التحمل والتعافي.
عندما دخلت المستشفى لأرى بلال، كان في العناية المركزة على الأرض لعدم توفر مكان له بسبب عدد الاصابات. لم أعرفه بسبب الحروق التي تغطي جسده بالكامل. بعد ثلاثة أيام فقدنا والد بلال، بعد يومين فقدنا بلال، وفي اليوم التالي فقدنا أخاه الأصغر، واليوم نفقد أمه. بقي الأطفال وحدهم.
بلال إنسان طموح جدًا ومثقف عال، صاحب عقلية غير عادية ولا يعجبها أي شيء، يصنع لنفسه دائرة خاصة فيه لا يدخل فيها أحد غيره. بلال درس القانون في الجامعة الإسلامية بغزة. خلال دراسته، فتح متجرًا إلكترونيًا لبيع المشغولات اليدوية، وكان يهتم كثيرًا بالأشياء التي تعبر عن الوطن، مثل البلايزر المرسوم عليها القدس أو المكتوب عليها عبارات تعبّر عن المقاومة، أو الحقائب التي يكون عليها الكوفية أو خارطة فلسطين. إنسان يبني نفسه من خلال تجاربه، لا يخاف من الفشل لأنه يدرك تماما أنها كانت فرصة للتعلم.
بعد تخرجه، عمل مع والده وأهله في بيع الأدوات المنزلية في منزلهم في مخيّم النصيرات. بيتهم يتكوّن من ثلاث طوابق، في الطابق الأخير يسكن بلال وأهله، وأمام بيتهم ساحة على عكس جميع بيوت المخيّم، لأن بيوت المخيّمات متلاصقة ببعضها البعض.
كنّا ننتظر بلال أنا وأصدقائي في هذه الساحة عندما نذهب للجلوس على سطح بيته. كنّا نجتمع بشكل مستمر وننتظر الصيف كي نذهب للبحر يوم الجمعة من الصباح لنقضي يومنا كاملًا على الشاطئ. نأكل سويًا، نلعب ورق الشدّة، نلعب الكرة الطائرة ونعزف ونغني سويًا آخر الليل.
قرر بلال مع والده فتح شركة لهم في سوق النصيرات، لأن المحل الخاص بهم في بيتهم غير كافٍ للعمل والتوسيع بسبب مكانه غير المناسب إذ لا يراه الكثير من الناس على عكس المكان الحيوي وسط السوق. عارضه الكثير من الأصدقاء بسبب التكلفة المالية لهذه الخطوة، وأن مكانهم في حواصل بيتهم لا يكلفهم شيئًا، لكنه كان مُصرًا على خطوته وقام بفعلها ونجح لأنه شخص ذكي.
عندما يترك بلال الشركة لساعات، كنا نلتقي به. لا يتوقف هاتفه عن الاتصالات، لأن الجميع يرغب بالتعامل معه أكثر من غيره المتواجدين معه.
في هذا العدوان على غزة، عمل بلال بأشياء أخرى غير الأدوات الكهربائية التي كان السوق بحاجة لها، لكنه كان يفعل شيئًا لا يفعله إلا من يحب وطنه. كان هناك صعوبة في الوصول للبنوك وسحب الرواتب بسبب قلة السيولة في البلد وقصف البنوك وتسكيرها عندما يدخل الجيش المنطقة. لذلك، صار هناك عمل جديد للناس وهو سحب المال لمن يريد بنسبة عن طريق التطبيق الخاص بالبنك. كانت تصل العمولة إلى 10%,15%,20% وأكثر، حتى شعرنا أن هؤلاء الناس سيشاركونا لقمة عيشنا.
من خلال البيع في السوق، كان يتوفر لبلال سيولة، ويعطي دائرة معارفه بنسبة 5%، القليل من الناس كانت تعطي هذه النسبة. بهذا الفعل كان يساعد الناس في تعزيز صمودهم في مثل هذا الوضع الذي يخنقهم من كل الجوانب.
في اليوم الذي خرجت فيه من مستشفى الأوروبي ونزحت في النصيرات لمدة ثلاثة أيام حتى نجد مكانًا لي ولعائلتي، وعلم بلال بوجودي في النصيرات، طلب من أمه طبخ معكرونة بالباشميل من أجلي. لم يكن يعرف بلال كيف أحب المعكرونة، دون فليفلة وبصدر الدجاج بعكس ما يطبخها الكثير باللحمة المفرومة مع فليفلة، كانت أكلة اشتقت لها كثيرًا، لكني لم أعرف أنها أكلة الوداع.
رحل بلال ومعه كل ذكرياتنا، وبقي الحب وحده في قلوبنا.