تبدأ رحلة الأطفال في غزة يوميا من الساعة السادسة صباحا عندما يضرب زمور شاحنة المياه الحلوة، يستيقظوا قبل الشاحنة بساعة ليقفوا في الطابور، يضع الناس جالونات الماء في أربع خطوط عمودية. وعندما تقترب الشاحنة من المكان ويضرب السائق الزمور يبدأ الازدحام ويبقى الطابور وحده.
إن لم تستطيع اللحاق وتعبئة حاجتك من الماء سوف تضطر إلى شراء الماء. تقف الشاحنة بالساعات وعلى الرغم من ذلك يبقى الكثير لا ماء لهم. يعود من يعود إلى خيمته وهو يحمل الماء فرحا إلى أمه وهناك من يعود والخيبة تُثقله. بعد الاستراحة من سباق الماء الأول يجهزوا أنفسهم إلى السباق الثاني من أجل ماء الغسيل، ثم جمع الحطب للطهي.
يذهب الأطفال يوميا إلى مناطق خطرة لجمع الحطب والكرتون والنايلون في الطرقات لتوفير بعض المال على أهاليهم في ظل الفقر الخانق الذي يعيشونه. بعض العائلات تشرب من مياه الغسيل الخارجة من باطن الأرض مباشرة مما يعرضهم لأمراض المعدة. أما الأطفال الذين يذهبون لجمع حاجتهم من الطرقات في ساعات الظهر فتتعرض أجسادهم الصغيرة للحروق من أشعة الشمس وأمراض جلدية تراها للمرة الأولى بسبب مخلفات الحرب والبارود الذي يلقيه جيش الاحتلال على قطاع غزة. ينتشر هذه الفترة مرض جلدي لا تستطيع المستشفيات التعامل معه بسبب نقص المستلزمات الطبية والأدوية.
قتل الأطفال إبادة يشهد عليها العالم وحرمانهم من حقهم في العلاج إبادة أيضا.
على بعد أمتار من خيمتنا توجد خيمة صُنعت على يد رجل طويل القامة يحمل في يده بلطة كبيرة على الدوام يقطع بها الحطب للناس مقابل المال ويقطع الحطب الذي يجلبه من الأراضي الفارغة والشجر ويبيعه ، كما يقوم بتعديل ألواح الزينكو والأسياخ الحديدية للخيام.
هذا الرجل لديه الكثير من الأطفال أكبرهم ابنته فاطمة صاحبة الخمسة عشر عاما التي تبدو بحجمها أكبر من عمرها بكثير. ذهبت أم فاطمة قبل شهرين تقريبا لتلد بعملية جراحية، وعند خروجها من المستشفى ذهبت إلى دير البلح عند أقاربها في بيتهم لأن الخيمة في مواصي خانيونس ستكون صعبة عليها وعلى مولودها الجديد.
خلال الشهرين كانت فاطمة هي من تهتم بأخوتها. في الصباح تقوم بغلي الماء للعجين، تُقطعه ثم تتركه يستريح قليلا ثم ترقه وتذهب لتقوم بإشعال النار في فرن الطينة وتعود للعجين لتخبزه على النار، ثم تقوم بعمل وجبة الإفطار لإخوتها وتطعمهم، تغسل لهم ملابسهم، تنظف، ترتب، تحفر حول خيمتهم إذا لزم الأمر وتصطف في طابور الماء. وعندما تريد الخروج إلى مكان ما تلبس أجمل ما عندها وتخرج كأنها فتاة وتنسى طفولتها التي ضاعت منها على الطابور وفرن الطينة ورمل الخيمة الذي تغيرت نظرتها له من اللعب فيه إلى إخراجه من الخيمة كي تنام على فراش نظيف.
ربما نرى فاطمة بطلة صنعت ما لم يصنعه أحد، لكنها ستظل تحلم إن تعود صغيرة، سيظل هذا الحمل داخلها حتى تكبر أكثر وتشعر أنها ما عادت قادرة على هذه الحياة.
نحن هنا تعبنا من تصويرنا أمام العالم أننا أبطال، نتحمل الكثير نعم، ونفعل الكثير لكننا أناس عاديون نريد أن نستريح كالبقية.